لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

  • 250

كم هي كثيرة في هذه الأيام أسباب الهم والغم والحزن والضيق والكرب الذي يحيط بأمتنا من كل جانب، أنواع من المؤامرات لا يحصيها إلا الله، أنواع من الظلم والاضطهاد يتعرض لها المسلمون في المشارق والمغارب، فساد يعتري البلاد والعباد من كل جانب، أنواع من الخلل في المجتمعات، في الأسر، في الدعوات، في الطوائف والجماعات، كل ذلك يُسبّب أنواعا من الضيق والهم والكرب.
 
لكن الله سبحانه وتعالى برحمته جعل لنا من أسباب تفريج الكرب والضيق دائما ما نلجأ به إليه سبحانه وتعالى حتى تذهب الهموم والغموم؛ من أعظم ذلك ما ذكر الله سبحانه وتعالى في قصة يونس عليه السلام، قال الله عز وجل: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَ?هَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
 
روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مررت بعثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد، فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يردّ علي السلام، فأتيت عمر بن الخطاب، فقلت يا أمير المؤمنين: هل حدث في الإسلام شيء؟ مرتين، قال لا، وما ذاك؟ قلت: لا، إلا أني مررت بعثمان آنفا في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يردد علي السلام، قال: فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه فقال: ما منعك ألا تكون قد رددت على أخيك السلام فقال: ما فعلت، فقلت بلى؛ حتى حلف وحلفت، ثم قال: إن عثمان ذكر، فقال بلى وأستغفر الله وأتوب إليه، فقال: إنك مررت بي آنفا وأنا أُحدِّث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا والله ما ذكرتها قط إلا تغَشّى بصري وقلبي غشاوة، يعني كلما تذكرها ذَهَل، قال سعد: فأنا أنبئك بها؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة، ثم جاء أعرابي  فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا؟  أبو إسحاق قال: قلت نعم يا رسول الله، قال: فمه؟ قلت لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك، قال: نعم، دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك.
 
وقوله سبحانه وتعالى فنادى في الظلمات: هي ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل، هذا يدلنا على أن النداء في أوقات الشدة -خصوصا إذا كان في جوف الليل- من أرجى ما يستجاب للعبد، وكلما ازدادت حاجة الإنسان إلى ربه وازداد تضرعه لله سبحانه؛ كان أقرب إلى إجابة دعائه، ولذا فإن الافتقار إلى الله وإظهار رثاثة الحال مما يشرع  في مواضع متعددة كصلاة الاستسقاء، وكذلك في حال السفر، وفي حال المرض، وفي حال الافتقار إلى الله عز وجل، وفي يوم عرفة حين يكون الحجاج شعثا غبرا.
 
وبدأ هذا الدعاء بالتوحيد؛ توسل إلى الله عز وجل بتوحيده سبحانه وتعالى، والتوحيد هو أعظم مطلوب وأعظم واجب أوجبه الله على كل عباده؛ فإن من أعظم أسباب إجابة الدعاء تحقيق العبودية لله، ألا نعبد إلا الله، والإله هو الذي تفزع إليه القلوب ويتضرع إليه العباد في حوائجهم، وهذا من أخص معاني العبودية؛ ولذلك فإن في كلماته -رغم أن فيها ثناء وليس فيها لفظ سؤال- إلا أنها سميت دعوة، قال الله سبحانه "فاستجبنا له " فمع أنه ليس هناك طلب صريح  إلا أنه ثناء متضمن للطلب، والدعوة قد تطلق على الثناء المجرد وقد تطلق على الثناء الذي في ضمنه طلب وقد تطلق على الطلب المباشر، فالدعاء دعاء ثناء ودعاء طلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله).
 
فالإنسان في الكرب إذا توسل إلى الله بأنه يوحده وذكَر ألوهيته وحده لا شريك له؛ فإن هذا الدعاء ثناء متضمن للطلب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوة أخي يونس ما دعا بها مسلم في كرب إلا كشف عنه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم).
 
نجد هذا الذي يتوسل به إلى الله عز وجل ليس إلا ثناءً على الله سبحانه، وهذا الثناء متضمن للطلب في إزالة الكرب؛ فأنت إذا قلت لا إله إلا الله مستحضرا أنك تفزع إليه سبحانه في تفريج هذه الكربة فهذا أعظم وسيلة لكشف الكربات، فإن أضفت إليها التوسل إلى الله عز وجل بإلاهيته وربوبيته؛ كان من أعظم أسباب المغفرة، لذلك كان هذا  سببا لإزالة الكرب؛ فالمسلمون يقعون في الكرب بسبب الذنوب، فإذا وحّدوا الله غفر الذنوب وزالت الكروب بإذن الله؛ لذا نجد أن الشرك أعظم أسباب الكرب، وأعظم أسباب المصائب؛ لأنه أعظم الذنوب، فالشرك بالله والكفر به وتكذيب رسله سبب في أن يظل العبد في العذاب الأبدي السرمدي إذا مات عليه، وكم من أقوام نزل بهم عقاب الله بسبب تكذيبهم وكفرهم وشركهم بالله؛ فإذا حقق العبد التوحيد واستحضره في قلبه وهو يدعوا الله فإن ذلك من اعظم أسباب إزالة الكرب.
 
ثم التسبيح تنزيه الرب عز وجل عن كل نقص وعن كل عيب؛ وذلك أن الناس في مقام الكرب يقعون في أنواع من المنكرات والضلالات والتي من أخطرها وأعظمها تضييعا للعقيدة: أن يظن بالله الظنون، أو أن الله يضع الاشياء في غير مواضعها، فينكر الحكمة كما يفعل كثير من الناس عند المصيبة، يقولون لماذا فعل الله بنا هذا؟، وبعضهم يقوله بلسان الحال وبعضهم بلسان المقال، وبعضهم يعترض على ربه وينسب له الظلم؛ فأنت في الكرب تنزِّه الله هذا الظن السيئ، وتسبحه سبحانه: "سبحانك ما ظلمتني، سبحانك أنت منزه عن أن تضع الأشياء في غير موضعها، بل ما أصابني حق وعدل، وما أصابني من كرب ومصيبة فأنا محقوق به، أنا الظالم لنفسي، أنا المقر على نفسي، وأنت يا رب المتفضل، وأنت يا رب لك الحمد في كل ذلك، ولا أتهم ربي أبدا"؛ وهذا بلا شك من أعظم أسباب جبر الإنسان؛ لأنه انكسر لله، فإنه يُجبَر بإذن الله، فهذا من الفوائد العظيمة للمصائب والمحن، لأنها تكسر الإنسان لله، فتعالج ما قد يصاحب الطاعة أحيانا من الشعور بأن له فضل ومنزلة، كما فعل الجهلة من الأعراب الذين قال الله عنهم: "يمنون عليك إسلامهم" قال بعضم أسلمنا ولم نقاتلك يا محمد إذ قاتلك غيرنا، إسلامهم ناقص مدخول وليس إيمانا واجبا في الحقيقة، لذا قال تعالى عنهم: "قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا" ومع ذلك يمُنّون بإسلامهم، وهذا  حال الجاهل نعوذ بالله من ذلك.
 
فالمصائب والمحن والكروب، ثم الاعتراف على النفس بالظلم من أعظم أسباب الجبر؛ قال الله سبحانه وتعالى عن دعوة يونس عليه السلام: {لَّا إِلَ?هَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، وقال آدم وحواء عليهما السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وعلّم النبي صلى الله عليه وسلم أبابكر أن يقول: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم».
 
فمعرفة الإنسان نفسه بالظلم انكسار يزيد على انكساره بالمصيبة والمحنة التي أصابته، واعترافه على نفسه؛ كل ذلك من أسباب جبره بإذن الله سبحانه وتعالى؛ فاللهم أجبر كسرنا وأذهب همنا وغمنا وفرج آلام المسلمين في كل مكان.