العقل الجمعي والظلم المجتمعي

  • 147

عانت مجتمعاتنا منذ أزمنة طويلة من حالة الصراع والاستقطاب بين طبقات المجتمع وطوائفه وجماعاته، ومن أخطر مظاهر الفساد الذي يدمر الدول، ويهدم المجتمعات، أن تتكون داخل كل طائفة أو جماعة أو طبقة ثقافةٌ عامة وعقل جمعي يعطي للطائفة حقا فوق الناس، وسلطة يأمن صاحبها من الحساب والمساءلة، وبالتالي العقوبة؛ فتستبيح هذه الطائفة غيرها في الدماء والأعراض والأموال.
 
ولقد ذم الله في القرآن فرعون وقومه قال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}. ويُلحظ في هذه الآية الكريمة أن الله لم يذم فرعون فيها بوصف الكفر، مع كونه أظهر أوصفه وأول أسباب عقابه، لكنه هنا إنما ذمه على وصف العلو والجبروت، وتقسيم المجتمع إلى طوائف، وإباحة أبناء ونساء طائفة منهم هم بنو إسرائيل؛ فكان ذلك من أعظم صور الفساد.
 
ولما ذكر سبحانه إرادته في المن على بني إسرائيل لم يذكرهم بوصف الإيمان والإسلام، وإنما قال: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُالْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}. فذكرهم بكونهم مظلومين مستضعفين؛ إيذانا بان هذا الوصف هو الأصل في جبر كسرهم، ورفع الظلم عنهم، لأن إرادة الله في نصر المظلوم وكسر الجبار الذي ينازعه سبحانه صفته ثابتة متقررة. ولقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى فقال: "اتقوا دعوة المظلوم ولو كان كافرا فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" (حديث صحيح). وفي رواية: "ولو كان فاجرا"، "ففجوره على نفسه".
 
ولقد أرسى الإسلام في عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة هذه القاعدة العظيمة ألا يسمح لطائفة أن تكون فوق المساءلة والعقاب، ولو كانت الفئة المؤمنة. وألا يسمح أن تكون طائفة مستباحة الحقوق ولو كانت فئة كافرة؛ كما في سبب نزول قوله تعالى: {وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}، فيه أنها نزلت في يهودي اتهم ظلما بجريمة غيرها، فنزل القرآن بإنصافه، وقرر القرآن القواعد العظمى التي عرفتها الدساتير المعاصرة متأخرا، من أن العقوبة شخصية. قال الله تعالى {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}. فلا يصح ولا يجوز أبدا أن نحمل الجرائم على إنسان لم يرتكبها لأنه ضمن طائفة مستباحة ولا أن يبرأ مجرم لأنه من طائفة ممنوع عقابها ومساءلتها، بل عوقب الأمراء في العهد الراشد، وأقيمت عليهم الحدود، كما ثبت في الصحيحين إقامة عثمان رضي الله عنه الحد على الوليد لما شرب الخمر، ولقد كان أميرا من الأمراء. وفي السيرة أن عمر رضي الله عنه استحضر عمرو بن العاص أمير مصر وابنه من مصر من أجل نصراني ضربه ابن عمرو، وأمره أن يضرب ابن الأكرمين. وبهذا قامت الدولة الإسلامية وانتصرت بالعدل، وزالت دول كانت راسخة هائلة، وهزمت بالظلم والجبروت.
 
وقرر فقهاء الإسلام أن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويخذل الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ونص الفقهاء على إقامة الحدود والقصاص على الحكام والخلفاء والأمراء في أبواب الفقه المختلفة؛ لأن سيادة القانون السماوي الشريعة الإسلامية على جميع أفراد الدولة أمر لا يقبل المنازعة، في حين كان العالم غارقا في الجبروت والظلم والعدوان.
 
ولم يتردد أهل العلم أن الحفاظ على هيبة الدولة وكيانها لا يكون بإباحة الظلم والعدوان على الناس، وأن الزعم بشمول القانون على الجميع دون أن يكون ذلك حقيقة واقعة يراها الناس ويلمسونها لا يكفي في المنع من الانهيار والسقوط، بل الذي لا يشك فيه عاقل أن الحفاظ على هيبة الدولة تكون بإقامة العدل على الجميع، مسئولين وغيرهم، وعلى كل الطوائف، وإلزام الجميع بالشرع، ولأن عدم المساءلة الحقيقية وإنزال العقاب الحقيقي بمن يرتكب جريمة -أيا ما كان انتماؤه- هو الذي يدمر الدولة والمجتمع، ويجعلها لا فرق بينها وبين أقاليم الفوضى التي تحكمها العصابات والجماعات المنحرفة مثل داعش و غيرها، التي أعطت لأفرادها نفس الحقوق المزعومة ونفس الطريقة الباطلة في التعامل مع الناس. فالاستمرار في ذلك يقود حتما إلى الهاوية، شرعا وعقلا، وديانة وسياسة، فالله من وراء الخلق محيط، وهو لم يبح تعذيب الناس وقتلهم بغير جريرة لأحد، وإنما النفوس خلقها الله ولا يبيحها إلا الذي خلقها، كما بين في كتابه وعلى ألسنة رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وتقرير سلطان على خلاف ذلك إيذان بالانتهاء والدمار والفوضى. ومن الناحية السياسية إن انتشار الفساد من هذه النوعية يجعل موقف الدولة غاية في الضعف والصعوبة في أي مفاوضات أو منازعات أو حوادث تقع تعرّض سيادتها للنقصان، وتهينها أعظم إهانة، وتضر باقتصادها وأمنها القومي لانعدام الأمان والقانون فيها. ويكفي أن يكتب في الإعلام العالمي بأن البلاد كأنها بلا قانون،
 
و هذا الظلم قد يكون سبب فى بلاء عام و إن لم يرتكبه جميع الناس، لكنهم لم يزيلوها بتقصير من البعض وعجز من الأكثرين. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس". فلا بد أن ندرك أنفسنا قبل أن تصل الأمور إلى ما لا يمكن تداركه.
 
و يجب أن ننتبه إلى أن وجود الظلم و انتشاره هو أحد أهم اسباب الافكار المنحرفة التى تكفر المجتمع و تشيع فيه الارهاب فإن سألتهم عن سبب قتلهم الناس بالظلم وتكفيرهم الناس بالعموم قالوا : إنهم يفعلون كذا وكذا، يحاربون الدين، ويظلمون المسلمين وغير المسلمين، ويعذبون الناس، ويغتصبون الحرائر، ويدمرون البيوت. فإذا قلت: هذا إن ثبت، لم يفعله الجميع، بل البعض، ولا تزر وازرة وزر أخرى. قالوا: قد أقروهم وأعانوهم فهم مثلهم. فمهما حاولنا رد هذا التعميم الجائر، والعقاب الجماعي الظالم الذي ينال من لا يستحق؛ تهاوت في نفوس أهل البدع حجتك، وضعف برهانك، رغم صحته وقوته في نفسه، لأجل وجود الظلم وإقراره واقعَا، وإن كان لا يقر لفظا وتصريحا.
 
فيا عقلاء الأمة! أدركوا الأمر وحاربوا الفساد وامنعوا الظلم.
 
وهذا خطاب للجميع بصفة عامة و للمسئولين بصفة خاصة لأنهم أهل السلطان، والمسئولية غدا بين يدي الله عظيمة.