نظرة في الفتن

  • 169

قدر الله سبحانه وتعالى أن تكون الفتن متكاثرة قبيل قيام الساعة، كما قال النبي ?: "من أشراط الساعة أن تكثر الفتن". تلك الفتن إذا تكاثرت وامتلأت الأرض منها ظلما وعدوانا، وجورا وطغيانا؛ فإن الله سبحانه وتعالى يملأها بعد ذلك عدلا وإحسانا، كما قال النبي ?: "لو لم يبقى من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلا مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي؛ يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا". وهذا في أرض الإسلام، فإن أرض الإسلام تملأ قبيل الملاحم الكبرى قسطا وعدلا، بعد أن ملئت ظلما وجورا، والله سبحانه وتعالى قدر ذلك، ثم تحدث الملاحم الكبرى بين المسلمين وبين الروم، ثم فتنة الدجال تقع فيها الملحمة مع اليهود من أتباعه، ثم يحدث الخير العظيم في الأرض كلها؛ من وجود المسيح صلى الله عليه وسلم، فيملأ الأرض كلها بهذا الدين، كما قال النبي ?: "يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم؛ حكما عدلا وإماما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية. وفي بعض الروايات الصحيحة: "وتكون الملة واحدة".
 
فإذا كثرت الفتن وجب على المؤمن أن ينتبه ويحذر، ووجب عليه أن يزداد بصيرة في الحق، وإرادة له، وثباتا عليه، وصبرا ويقينا بوعد الله عز وجل، ويعلم أنه له في وسط الفتن امتحان له ودلالة على قوة إيمانه إذا ثبت، ويرتفع درجات عند الله، وليس ذلك بشر للمؤمنين، بل هو خير له كما عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى? كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. معا ما كان لهم فيه من الألم الشديد لرسول الله ? ولزوجه الطاهرة المبرأة من فوق سبع سماوات أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، ولأفاضل المؤمنين وفيهم أفضلهم أبو بكر الصديق رضى الله عنه، كم كان الألم شديدا، والفتنة عظيمة في أوساط المسلمين، كانت فتنة أشد من فتنة الأعداء القادمين من خارج البلاد، وكذلك كانت فتنة المنافقين أشد على رسول الله ? وعلى أصحابه من الفتن الأخرى، وكان ذلك خيرا، ذلك أن الله عز وجل إنما أوجد البشر الذين يجتمع في قلبهم أنواع الإرادات والشهوات والرغبات، من الخير والشر، حتى في قلوب صفوة هؤلاء البشر، إنما أوجد الله هذا الجنس الإنساني من أجل هذه الصفوة، من أجل وجود هذه الأنواع من العبودية في مقاومة الشر.
 
فالله عز وجل كان ولم يزل قادرا على أن يخلق من يعبده لا يشرك به شيئا طرفة عين، وعلى أن يخلق من يسبح بحمده ويقدس له، ولا يسفك دما، ولا يظلم قيد أنملة، ولا يظلم أحدا ذرة كما خلق الملائكة؛ {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
 
وتلك عبودية لكن هناك ما هو عند الله عز وجل أفضل منها وأحب إليه سبحانه، من أجل ذلك خلق الناس الذين فيهم الشر، الذي يكرهه سبحانه وتعالى، وقد نهى عنه وحرمه ومع ذلك خلقه وقدره، بعلمه وحكمته وما خرج عن قدرته ولا قضائه ولا قدره، بل كان ذلك منه عز وجل خلقا وإيجادا، وإن كان من فعل الشر من أهل الشر هو الذي اكتسبه وفعله.
 
خلق الله عز وجل الأشرار من الجِنة والأنس، وخلق شياطين الإنس والجن؛ ليوجد من عباد الله سبحانه وتعالى المؤمنين من يقاوم هذا الشر، وتوجد أنواع من العبودية، لا يمكن أن توجد إلا بضدها، فالخير كله في يديه والشر ليس إليه سبحانه وتعالى، فله الحمد على ذلك؛ لكن لا بد لنا أن نقاوم الشر وأن نبذل جهدنا في فعل الخير.
 
قدر الله عز وجل أن تزداد أنواع الشر في زماننا، وفي أرضنا، وفي مجتمعاتنا؛ لينظر سبحانه وتعالى كيف نعمل في مقاومتها وفي نشر الخير وفي مقاومة أنواع الفساد؟ لا يمكن أن نستسلم، لا بد وأن نجتهد غاية الاجتهاد في إعلاء دين الله سبحانه وتعالى وكلمته، وهو بإذن الله ظاهر لا محالة، كما وعد سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}. سنة ماضية مهما كانت العقبات، ومهما كانت نوعية المواجهات، ومهما كان ضعف أهل الإيمان فيما يبدو للناس، ومهما كانت ذلتهم فيما يعده الناس، ومهما كانت قوة المتجبرين والطغاة، ومهما كان من ظلم وعدوان، فإن النتيجة الحقيقية الحتمية لهذا الصراع محسومة مسبقا في قدر الله، لا تبديل ولا تغيير في اللوح المحفوظ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى? حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى? حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
 
هذا القرآن ذكر للعالمين وسوف يعلمون، وقد علموا نبأه بعد حين، فسيعلمون النبأ العظيم بظهور الإسلام في كل مكان، سيعلمونه بعد حين كما كان من ذلك أن يشاء الله أن يكون، وقد علم المشركون ما  أخبر به النبي  ? من أنه {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}، وهكذا تكون العزة ويكون النصر باليقين بوعد الله والصبر على طريق الحق والثبات عليه، دون ارتباط بشخص أو مكان أو عمل معين، إلا طاعة الله عز وجل التي لا ينفك عنها المؤمنون في كل حال من الأحوال، "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ".
 
فقد قضى الله بعدله وحكمته أن يجعل الفرج مع الكرب، والنصر مع الصبر، وأن يجعل مع العسر يسرا، كما أخبر بذلك الرسول ?، وأن الله يجعل في اليقين أرفع المراتب، وفي الصبر معه وصول الإنسان إلى الإمامة في الدين؛ كما قال عز وجل {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.
 
ومن أعظم اليقين أهمية في حياة المؤمن أن يوقن بظهور الإسلام وعز هذا الدين، وأن الله عز وجل يدخله كل مكان وصل إليه ضوء الشمس وبلغه الليل والنهار، كما قال النبي ?: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر".
 
 وقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}. وصفاته عز وجل لا يمكن أن تتغير وتتبدل، فهو القوي العزيز، وهو الرحيم بعباده المؤمنين، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، بعزته أعز المؤمنين بأن وفقهم للقول الطيب والعمل الصالح، كما قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَ?ئِكَ هُوَ يَبُورُ}.  فلا بد أن نوقن بهذه الوعود من الله بأن الباطل يزهق ويضمحل، وأن الحق يبقى ويزدهر ويعلو بإذن الله؛ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى? وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
 
لكن لا بد أن نهتم بالعلم والعمل والدعوة إلى الله والتربية الإيمانية، والتعاهد لكل أبناء الدعوة وأبناء المجتمع على الخير ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. لو أن كل واحد فينا جعل مهمته أربعة أو خمسة من أبناء المسلمين يهتم بهم، ويتعاهدهم في صلاتهم، وفي أخلاقهم، وفي سلوكياتهم، يعلمهم ما يلزمهم ويرشدهم إلى ما ينفعهم، فإن ذلك يكون من أعظم أسباب نشر الحق في المجتمع.
 
نحتاج إلى أن نكسر الحواجز بيننا وبين الناس، التي يريد الأعداء أن يفرضوها علينا، يريدون إما أن نتحوصل ضد المجتمع حتى يطحن المجتمع أبناء العمل الإسلامي، وإما أن نتحوصل خارجه، وأن يفرضوا علينا حُجُبا وحواجز بيننا وبين الناس، ولا بد لنا أن نخترق هذه الحواجز، وندعو إلى الله سبحانه وتعالى بكل ما نستطيع من قوة، وأن نجتهد في إفشاء السلام، كما قال النبي ?: {أفشوا السلام بينكم}.
 
ولربما غاب هذا عن الكثيرين، حتى لا يختلطون بالناس فيعمقون نظرة التعالي التي يحاول الأعداء أن يرسموها عنا في مخيلة كثير من الناس؛ لذا من أعظم ما تواجه به الفتن قوة الترابط بيننا وبين أبناء مجتمعنا، وقوة الترابط بينا وبين بعضنا البعض حتى نكون نسيجا واحدا.
 
لا بد أن نحرص على قوة الترابط بيننا وبين بعضنا البعض، وبيننا وبين جميع أفراد المجتمع، حتى لا يتمكن الأعداء من تفتيت المجتمعات وتخريبها. فإن ذلك من أعظم أسباب الوقاية من الفتن كما أمر النبي ? بإفشاء السلام بيننا لذلك نقول: لا بد لنا من العلم ومن العمل والعبادة والذكر، كما لا بد لنا من الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في كل مكان نوجد فيه، حتى يعصمنا الله عز وجل من الفتن.
 
وأسأل الله أن ينجينا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يعلي كلمته في مشارق الأرض ومغاربها.