فأعينوني بقوة (1) ... حقيقة التمكين

  • 181

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،،
فالسعي إلى نشر الخير والصلاح وتحجيم الشر والفساد في الأرض هو بلا شك غاية وأمنية كل مؤمن عاقل صادق، ولكن تلك الغايات والأمنيات الصالحة لا يمكن أن تتحقق بمجرد كلمات ناطقة، إنما لا بد لها من أعمال دءوبة صادقة، مبنية على رسالة صحيحة ورؤية واضحة، وأهداف مرحلية محددة تتحقق بمقومات أساسية، يجب علينا أن نسعي - إن كنا صادقين – في تحصيل أسبابها، وقد بين الله لنا سبحانه وتعالى بعضا من هذه المقومات الأساسية في قصة من قصص القرآن الرائعة – كما في سورة الكهف - بكلمات قصيرة جامعة على لسان ذي القرنين - في معرض ذكر رحلاته عبر مشارق الأرض ومغاربها، حتى بلوغه الثغرة التي بين السدين التي يخرج منها قوم يأجوج ومأجوج فيعيثون في الأرض فسادا - حين أراد أن يمنع هذا الفساد عن الناس قاصدا صلاح أحوالهم، فقال في عفة وديانة وصلاح وقصد للخير تلك الكلمات التي تحتاج منا إلى تدبر وتأمل لنتلمس منها تلك المقومات الأساسية اللازمة لتحقيق الإصلاح المنشود ودفع الظلم والفساد الموجود، فقد قال تعالى على لسانه :
 (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) [الكهف:95]. 
 
فكان المقوم الأول:
تعلق القلوب بالله والسعي في رضاه
 
(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) فعطاء الله خير وأوسع من أي عطاء وتمكين الله لعباده منحة لهم إن سعوا في رضاه، فما عند الله لا ينال إلا بطاعته، والعاقل الصادق هو الذي يسعى في تزكية نفسه تحصيلا لرضا ربه واستجلابا لتمكينه وولايته قال تعالى: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)، فإصلاح النفس وتزكيتها والحرص على تأدية أوامر الله والسعي في رضاه وتعلق القلوب به هو بداية التمكين بلا شك لمن سعى في سبيل الإصلاح والتغيير، بل إن دوام التمكين مقرون دائما بذلك قال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)، فعاقبة الأمور كلها له وحده سبحانه وتعالى، يقلب القلوب ويبدل الأحوال، يقول للشيء كن فيكون. يقول ابن القيم رحمه الله: "ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد، فمن أَقبل إِليه تلقاه من بعيد، ومن تصرف بحوله وقوته أَلان له الحديد" [طريق الهجرتين 1/ 25].
 
فهو عز وجل القوي العزيز (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، وهو الذي يجود على عباده بالأسباب ويهيئها لهم، ويصرف عنهم موانعها ليوصلهم بها إلى غاياتهم المحمودة، فالتوكل لا يكون إلا عليه وحده واللجوء لا يكون إلا له وحده، ولله در ابن القيم حين قال: "فآثر رضاه وحده، واجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفا بها، مستلما لأركانها، واقفا بملتزمها، فيا فوزك ويا سعادتك إِن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك، ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخلع أفضاله: "اللَّهُمَّ لا مانع لما أَعطيت ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد سبحانك وبحمدك".
 
ولا عجب بعد ذلك لمن أراد الإصلاح والتمكين أن تبقى تلك الكلمات: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) متعلقة بذاكرته، محفورة في قلبه ووجدانه، يراها في أفعال وكلمات كل المصلحين عبر التاريخ، كما فعل نبينا ? في مشهد عظيم من مشاهد العبودية، وقد سقط رداؤه عن كتفه، وهو مادٌّ يديه يستغيث بربه متضرعا إليه يوم بدر: «اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد». تبقى هذه الكلمات واضحة جلية لنتعلم منه ضرورة تحصيل أسباب التمكين الأصلية  :
 
- مِن طهارة القلوب وسلامتها، وصدق توكلها على ربها ومراقبتها له سبحانه وتعالى، وإلحاحها عليه بالدعاء مع كثرة الأعمال الصالحة، من طلب للعلم الشرعي وتحصيله، وقراءة القرآن وتدبُّره وكثرة الذكر والاستغفار، وكثرة الصلاة والصيام، وبرِّ الوالدين، وصلة الرَّحِم وغيرها والتي تحتاج قطعا إلى مجاهدة عظيمة للنفس ومجهود متواصل يُحصل به صاحبه الهداية والتوفيق والسداد من رب الأرض والسموات، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) .
 
- ومِن بُعدٍ عن الذنوب والمعاصي والموبقات، والتي تُمْحَق بسببها البركات، وتُجلب بها البلاءات، وتُضيع بسببها كل المجهودات، ويؤذن بها بحربٍ من رب الأرض والسموات، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، ولله در أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أوجز فأنجز حينما أرسل تعليماته إلى سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه في جبهة فارس، قائلا له: "إنِّي آمُرُك ومَن معك أن تكونوا أشدَّ احتراسًا من المعاصي منكم من عدوِّكم؛ فإنَّ ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوِّهم".
 
فما أهون الساعين للإصلاح على الله إن هم أضاعوا أمره واجترؤوا على حُرماته، ولم يسعوا في رضاه، ولو حيزت لهم الدنيا بما فيها من ملك ونعيم، قال الحسن البصري: (إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه) .
 
وما أكرم المصلحين على الله إن أطاعوا أمره وسعوا في رضاه، فتلك حقيقة التمكين، ولو حِيك بهم كل مؤامرات التشويه والإقصاء والتخوين، وأبعدوا عن مناصب أهل الدنيا المنعمين، ولله در إبراهيم بن أدهم القائل لبعض أصحابه يوما: "لو عَلِم الملوكُ وأبناءُ الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا بِالسُّيُوفِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ" (البداية والنهاية لابن كثير)- يقصد نعيم الطاعة ...
 
دمنا وإياكم دائما لرضا الله راجيين وللصلاح والإصلاح ساعيين، وللحديث بقية – إن شاء الله وقدر – لبيان المقوم الثاني المطلوب لتحقيق ذلك الأمل المنشود.