فأعينوني بقوة (2)... الجماعية ونبذ الفردية

  • 239

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد تحدثنا في الجزء الأول من سلسلة مقالات (فأعينوني بقوة) عن المقوّم الأول من تلك المقومات الأساسية اللازمة لتحقيق الإصلاح المنشود ودفع الظلم والفساد الموجود وهو:
«تعلق القلوب بالله والسعي فى رضاه».
والتي تلمسناها من قول الله تعالى على لسان ذي القرنين في سورة الكهف في معرض ذكر رحلاته عبر مشارق الأرض ومغاربها حتى بلوغه السدين وسعيه لمنع فساد قوم يأجوج ومأجوج عن الناس، قاصدا صلاح أحوالهم: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا).
 
فالسعي إلى نشر الخير والصلاح وتحجيم الشر والفساد في الأرض هو بلا شك غاية وأمنية كل مؤمن عاقل صادق، ولكن تلك الغايات والأمنيات الصالحة لا يمكن أن تتحقق بمجرد كلمات ناطقة، إنما لا بد لها من أعمال دءوبة صادقة مبنية على رسالة صحيحة ورؤية واضحة وأهداف مرحلية محددة، تتحقق بمقومات أساسية يجب علينا أن نسعي -إن كنا صادقين– في تحصيل أسبابها، لذا كان المقوّم الثاني..
 

المقوم الثاني: الجماعية ونبذ الفردية
(فأعينوني بقوة) فلنتأمل رحمني الله وإياك لهذه الكلمة (فاعينوني) التي نطق بها ذو القرنين، وهو من هو في قدرته وقوته وتمكنه من النفوذ في أقطار الأرض وقيادة الناس كما قال الله تعالى واصفا إياه في كتابه: 
(إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبً).
 
قال الشيخ السعدي في تفسيره:
" مكنه من النفوذ في أقطار الأرض، وانقيادهم له، وأعطاه الله من الأسباب الموصلة له لما وصل إليه، ما به يستعين على قهر البلدان، وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران".
 
ثم لنتأمل حال من طلب التعاون معهم والذين وصفهم الله تعالى بقوله :(قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) أي: استعجمت ألسنتهم وأذهانهم وقلوبهم.
 
فقد جاءت تلك الكلمة بوضوح لتعلي قيمة العمل الجماعي في مواجهة النزعة الفردية والعمل الفردي، والذي يتبناه البعض بل ويدعو غيره إليه لأسباب قد يتحقق بعضها في أشخاص وقد تجتمع كلها عند البعض الأخر، ومن هذه الأسباب :
 
1- تميز هذا الشخص في مجال من المجالات مع تفاوت في القدرات بينه وبين غيره من الأفراد مع ظنه أن المحافظة على التميز لا بد فيها من الانفرادية وعدم الارتباط بكيان يقيد حركته، مع شعوره -كما يظن- أنه لا يوجد في أفراد هذا الكيان من يتميز عنه في هذا المجال أو يستطيع أن يحل محله، أو ظنا منه أن انفراديته تتيح له مساحات عمل أكبر تحقق نتائج أعلى من كونه مرتبطا بكيان، مما يُكون عنده قناعة ومبررا للانسلاخ من العمل الجماعي، أو سببا لإيجاد نموذج جديد بديل عن العمل الجماعي.
 
والحقيقة أننا لو تأملنا تلك الآية -كما بينا عاليه- لوجدنا أنها تدحض هذه الشبهة من أصلها، فها هو ذو القرنين والذي أوتي من كل شيء سببا، ومكن له فى الأرض، يضع قدراته ومهاراته وما أوتي من أسباب جنبا إلى جنب مع قدرات من هم أقل منه شأنا وفهما وقدرة ليحدثوا ذلك التكامل المنشود لمنع الفساد، كما قال تعالى على لسان ذي القرنين:
(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا).
هم: (يجمعون قطع الحديد).
وهو: يساويها..،
هم: (يوقدون النار وينفخون عليها..).
وهو يفرغ النحاس على الحديد..
 
وهكذا في مشهد تعاوني رائع، مستغلا لهذه القدرات المتفاوتة، محققا للهدف المنشود بنتيجة أعلى مما كان يتصور صاحبها حين سعى لبناء هذا السد، حيث منع هذا البناء بفضل الله عز وجل وبركة هذا العمل الجماعي الرائع فساد قوم يأجوج ومأجوج عن البشرية جمعاء، وسيظل حتى يأذن الله عز وجل بخروج قوم يأجوج ومأجوج مرة أخرى كعلامة من علامات قيامة الساعة.
 
2- عدم تفهم بعض الأشخاص لطبيعة العمل التعاوني في كيان، والذي يحتاج إلى مراحل انتقالية يمر بها ليصل إلى ثمرته المرجوة، مع عدم الصبر لتخطي هذه المراحل، لا سيما المراحل الأولى منها والتي قد تكون سببا في نفرة البعض من العمل الجماعي في كيان بل ومحاربته، وهذه المراحل تتمثل في:-
 
أ) مرحلة [التكوين]:
وهي أولى خطوات التحول من الفردية إلى الجماعية، وهي مرحلة اختبار يكتشف فيها الفرد العلاقات الملائمة مع أعضاء الكيان ويكتشف فيها البيئة النفسية والاجتماعية للعاملين معه في هذا الكيان، ويبدي الأعضاء في هذه المرحلة سلوكا يكون خليطا من الأدب والمجاملة والتعامل الرسمي مع الآخرين ومحاولة فهـم المهـمة المطلوبة والبحث عن مصادر للمعلومات، ومحاولة التعرف على المشكلات المحتملة وطرق مواجهتها.
 
وقد تظهر الشكاوى في هذه المرحلة من الأفراد بسبب الصعوبات المتوقعة سواء أكانت حقيقية أم وهـمية، وكذلك يظهر بعض الضيق والتبرم والتردد والإحجام بسبب عدم استكمال احتياجات هذه المرحلة على الوجه الأكمل، والتي تتمثل في دعم للأفراد مع سرعة في تقديم المعلومات الكافية لهم لتوضيح رسالة المؤسسة وأهدافها والمهـام المطلوبة منهم وتدريبهم على أداء هذه المهام والتركيز على المهارات التي تنقصهـم، مع بيان معايير النجاح والفشل وإبراز السلوك المرغوب والمرفوض منهم ...
 
ب) مرحلة الصراع [العاصفة]:
و هي أصعب المراحل في بناء العمل الجماعي داخل الكيان، حيث يبحث فيها كل عضو عن مكانه ومكانته، وتبدو فيها الأهداف صعبة أو غير قابلة للإنجاز، وقد ينفذ فيها صبر الأعضاء فيجادلون ويعترضون ويقاومون، وينشأ النزاع بينهـم وقد يترك بعضهـم العمل بالكلية ...
 
ويسود في هذه المرحلة شعور بتضارب وجهات النظر والمقاومة والرفض والحيرة، ويبدي الأعضاء في هذه المرحلة سلوكا يتسم بالجدال والمناقشة والتحدي والتنافس والصراع، واستخدام وسائل الدفاع السيكولوجية من إسقاط وتبرير وانسحاب وهجوم ، كما يبدءون في التشكيك في الأهداف والمهام، ويميل بعضهـم إلى الدفاع الشديد عن وجهة النظر الشخصية مع فقدان السيطرة على الأعصاب، مما قد يؤدي إلى خروج بعض الأفراد من الكيان مع نفرة مستقبلية شديدة من العمل الجماعي، وهؤلاء الأفراد غالبا هم الذين لم يستطيعوا التوافق والتناغم مع إيديولوجية الكيان أو مع السواد الأعظم من أفراده والذي يحدث غالبا نتيجة لاختلاف الروئ والتوجهات أو حتى البحث عن الذات ... إلخ
 
وهذه المرحلة إن استمرت أكثر من اللازم فإنها تمنع أى انجازات مستقبلية ملموسة للكيان بل قد تُغرق الكيان كلها ...
 
لذلك فإن هذه المرحلة تحتاج إلى كثرة التذكير بفضيلة الاحتساب والأجر المترتب على هذا العمل الجماعي، مع إعادة توضيح الأهداف والأيديولوجية المميزة للكيان، ومعرفة لأنماط الشخصيات ونشر لحقوق الأخوة الإيمانية، واستخدم كل الأساليب المتاحة لحل النزاع من توفيق وتقريب لوجهات النظر وتكيف ومشاركة ...
 
ج) مرحلة التناغم ووضع القواعد:
وفي هذه المرحلة يبدأ قبول الأعضاء لبعضهـم بعضا، وللأدوار التي سيلعبونها وللكيان ككل، وتتميز هذه المرحلة بانخفاض حدة النزاع وبدء التعاون ثم تزايده تدريجيا، وهي مرحلة وسيطة تمهد للمرحلة التالية وهي مرحلة الإنتاجية وأداء المهام .
 
وفي هذه المرحلة يتم وضع القواعد للعلاقات والمعاملات بين أفراد الكيان، ويغلب على الأعضاء الراحة النفسية لحل النزاعات والالتزام والعزم على التعاون والمشاركة والعمل على تسوية الخلافات وتبادل المعلومات والصراحة والتعبير عن المشاع، وتكون العلاقات الاجتماعية والشخصية مرحة ومسترخية.
 
وتحتاج هذه المرحلة إلى تشجيع مشاركة الأفراد وتنمية الالتزام الذاتي والشعور بالمسئولية وإعطاء المعلومات اللازمة وبدء عمل خطط وجداول للعمل مع توفير التدريب اللازم لتنفيذ تلك الخطط...
 
د) مرحلة الإنتاج والأداء:
وهى مرحلة الإنتاج المثمر على أرض الواقع حيث يبدأ الأعضاء في القيام بأدوارهـم ويمارسون تخصصاتهـم المهنية أو الوظيفية-كل في مجاله- ويمارسون علاقات التعاون والترابط، ويتعرف كل عضو على دوره ويتفهـم كل عضو نواحي القوة والضعف لديه ولدى الآخرين، ويفكر أعضاء الكيان في طرق زيادة الفاعلية، حيث تبدأ خطوات التقدم ونتائجه في الظهور وتنمو الرغبة في أداء الدور المطلوب عن طريق التعاون والقدرة على التنبؤ بالمشكلات، والرغبة في تفاديها أو علاجها، وتحمل المخاطرة من أجل إنجاز وتحقيق الهدف ...
 
لذا فإن تفهم هذه المراحل والواجب تجاه كل مرحلة والسعي في تحقيقه، مما يساعد على تطبيق تلك الكلمة النورانية {فأعينوني} لتحقيق الجماعية ونبذ الفردية.
 
3- ومع هذه الأسباب أيضا، فهناك الدفع في اتجاه العمل الفردي، والذي يُصنع على أعين هيئات ومنظمات، ويستخدم فيه أفراد سواء بمعرفتهم أم لا، عن طريق فتح المساحات لهم وإعطائهم الحرية الحركية للانتفاش المطلوب بهدف مرحلي يسعى لتغيير القناعات -لاسيما عند الشباب- بعدم جدوى وجود العمل الجماعي في كيان ودفعهم إلى الترويج لمرحلة وسيطة مؤقتة تحت ما يسمي باسم (الجماعات الوسيطة)، أو إن شئت فقل: (المجموعات الوسيطة): والتي تُبنى على رموز فردية يتميز بعضها في مجال معين، ويتميز البعض الآخر في مجال آخر، ولكلٍ أتباع لا يَهتمون ولا يُوجَهون إلا إلى مجال تميز تلك النماذج، والتي تَصنع مع الوقت اعتدادا بالذات، ونماذج فردية بعيدة عن الشمولية الموجودة في صورة الكيان الجماعي المتماسك والمؤثر في المجتمع بمجموع أعماله وشمولية مجالات عمله المتكاملة -حتى على ضعفه-.
 
حيث يسهل مع الوقت التأثير على تلك النماذج الفردية أو إطفاء جذوتها بمجرد تضيق أو منع أو حتي ترك بمساحة تأثير محدودة محسوبة لا تستطيع معها أن تواجه الفساد مواجهة شاملة أو حتى تقلله أو تحقق الإصلاح الشامل المنشود أو حتى تقترب منه قدر المستطاع.
 
لذلك وبناءً على ما ذكرناه عالية فإن هذه الكلمة القرآنية {فأعينوني} ليست مجرد حروف تقرأ، إنما هي توجيه لأمر عملي مشروع له أدلته الشرعية.
 
كما يشير إلى ذلك قول الله عز وجل في مواضع أخرى من القرآن :
كقوله تعالي: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
 
قال الشيخ السعدي في هذه الأية: "أي: ليعن بعضكم بعضا على البر، وهو: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة، من حقوق الله وحقوق الآدميين.
 
وقوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
 
قال الألوسي في تفسيره: "وَالْأُمَّةُ الْجَمَاعَةُ وَالطَّائِفَةُ"، وقال الطبري في تفسيره: "قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه {ولتكن منكم} أيها المؤمنون {أمة}، يقول: جماعة".
 
وقال السعدي أيضا فى تفسير هذه الأية: "وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه"، وقال أيضا: "وكما تدل عليه الآية الكريمة في قوله {ولتكن منكم أمة} أي: لتكن منكم جماعة يحصل المقصود بهم في هذه الأشياء المذكورة -(أي من فروض الكفايات)-، ومن المعلوم المتقرر أن "الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به"، فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه فهو مأمور به".
 
وكما جاء في السنة النبوية من قول النبي ? لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن «تطاوعا ولا تختلفا».
 
وهي- أي هذه الكلمة {فأعينوني}- أيضا توجيه لأمر عقلي مقبول له أدلته العقلية، لا سيما في مثل هذه الأزمان التي يعمل فيها الأعداء وأهل الشر والإفساد بجهود منظمة جماعية مؤسسية لا يمكن أن تواجه إلا بعمل جماعي مثله يحقق التكامل بين الأفراد، ويوحد الأهداف ويحقق شمولية الطرح ولا يموت بموت فرد كان ما كان أو يمرض بمرضه أو يتأثر بكسله أو حتى انتكاسته ويستمر من جيل إلى جيل في سبيل تحقيق الإصلاح المنشود.
 
دمنا وإياكم دائما لرضا الله راجيين وللصلاح والإصلاح ساعيين، وللحديث بقية –إن شاء الله وقدر– لبيان المقوم الثالث المطلوب لتحقيق ذلك الأمل المنشود .