عاجل

أحوالنا بين الرفق والعنف

  • 202

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه، وإن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف».
 
حين يُستعمل العنف في غير موضعه يكون شينًا على صاحبه، وضررًا عليه وعلى من حوله، وعلى العلاقات الإنسانية ممن يحيط به، والتي لا يسعد الإنسان مع توترها أبدا.
 
فأما إذا انتشرت ظاهرة العنف في مجتمع فإن المخاطر التي تتهدده تتضاعف، وتؤدي ثقافة العنف إلى استعماله في كل خلاف وخصومة، ومع قلة التقوى وضعف الدين يكون مع الخصومة فجور، فيدخل النفاق إلى القلب، ويجر الفجور إلى مزيد من الخصومة، فيحدث الكذب، وخلف الوعد، ونقض العهد، والغدر، وتتحزب الطوائف والجماعات، ويزداد الغضب، ويحدث الاقتتال الذي تنتهك فيه كل الحرمات.
 
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «وأعوذ بك من القسوة والغفلة».
 
فالقسوة في القلب تتعلق بضعف الإيمان أو انعدامه، وقلة الانفعال عند ذكر الله، وهذا مستوجب للويل؛ {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}. وربما تؤدي قسوة القلب إلى تحريف الكلم عن مواضعه: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ}.
 
وقسوة القلب تؤدي إلى قسوة المعاملة مع من حوله، وتزداد درجتها إلى أن تصل إلى الرغبة في تعذيب الناس، وقد قضى الله سبحانه بعدله أن يعذب من يعذبون الناس.
 
ومن نظر إلى مجتمعنا الكبير وجد ظاهرة العنف طاغية، بل وأثرت على مجتمعاتنا الأصغر، حتى في الجماعات التي على نهج واحد ونسق واحد، قد دخلها من العنف في الأقوال والأفعال، في نوع الكلمات ونبرة الكلام وطريقته، ثم في العمل والسلوك، بل وفي داخل الأسرة، وفي العلاقة بين الزوجين وبين الآباء والأمهات وبين الأولاد، وبينهم وبين الجيران، وبين الزملاء في العمل، كل هذا نذير شر مستطير، وسبب شقاء وتعاسة للأفراد والمجموع، وازداد الأمر سوءًا بانتشار ثقافة العنف في كتابات صفحات التواصل الاجتماعي، التي صارت من أعظم أسباب سوء الخلق، وإفساد العلاقات وحصول التقاطع والتدابر لا التواصل.
 
نريد أن نرفع شعارًا ونطبقه: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه".
 
نريد أن نهدّئ من نبرة كلامنا وحدّة ألفاظنا، نريد أن نتعلم ونعلم الجميع السكينة والهدوء حتى نستطيع وزن الأمور على حقيقتها، ففترات الأزمات تتميز بتأجج العواطف، وقوة الاندفاع دون تريث، وتهييج الناس فن خبيث يُتقنه أهل الفتن، وهل كان مقتل عثمان رضي الله عنه إلا بسبب ذلك؟! وهل كانت موقعة الجمل ثم صفين إلا ثمرة من ثمرات هذا الخلل؟!
 
رويدًا -رحمكم الله-، تعاملوا في الأمور كلها بالحلم والأناة، وتثبتوا قبل اتخاذ المواقف، والتمسوا الأعذار لإخوانكم، وقدموا حسن الظن، وأخّروا سوء الظن واحتمالات السوء، وإياكم والدخول في نيات الناس وبواطنهم التي لا يعلمها إلا الله، ولم نُؤمر أن نشق عن صدور الناس وقلوبهم، ولو كانت القرائن تؤكد أمرًا نظنه فالبينات مقدَّمة، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم راجمًا أحدًا بغير بينة لرجم تلك المرأة التي شاع عنها السوء، ومع ذلك انتصر العمل بالبراءة الأصلية، ولم يجز تقديم القرائن عليها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الملاعنة لما جاءت بحملها على الوجه السيء: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن».
 
مع ما يقع في نفس كل سامع أو قارئ للقصة فضلاً عمن حضرها من ظنون، لكنّ الأيمان مقدَّمة في العمل على الظنون.
 
لا بد لنا أن ننشر ثقافة الرفق وندفع ثقافة العنف؛ بأن نختار كل كلمة نقولها أو نكتبها، ونسأل أنفسنا هل يوجد أرفق منها؟
 
 فإن وجدنا استعملنا الأرفق.
 
وإذا واجهنا أحد بسيئة فلنأخذ المنزلة العظيمة، ولنكسب الحظ العظيم؛ بأن نواجه سيئته بالتي هي أحسن.
 
فأمامنا أن نواجه السيئة بما هو أسوأ منها، ونرد الصاع صاعين، كأهل الجهل والعناد والجبروت، وهذا هو البغي الذي يعجّل الله عقوبته في الدنيا.
 
وأمامنا أن نواجهها بسيئة مثلها وضبط ذلك عسير.
وأمامنا أن نواجهها بحسنة.
وأمامنا أن نواجهها بالتي هي أحسن.
 
فانظروا ما اختاره الله لنا، فلندرك عظم هذه المنزلة: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
 
اجعلوا الحوارات بيننا علمية نقية، أساسها الرغبة في الوصول إلى الحق على أي اللسانين ظهر؛ لساني أو لسان خصمي، ولنسع إلى تطهير قلوبنا من الغل للمؤمنين والحسد لهم والكبر والعجب والكيد والمكر، فإن ذلك كله سبب القسوة والعنف، وكلما ازدادت النفس نظرًا إلى كمالاتها الوهمية وإعجاباً بها كلما قست على المنافسين والمخالفين وابتعدت عن الرحمة والسكينة والحب فانشروا رحمكم الله أسباب السكينة والمودة والرحمة.
 
جعلنا الله وإياكم ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».