فأعينوني بقوة (4)... المقومات البشرية للقوة الجماعية

  • 160

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد تحدثنا في المقال السابق [فأعينوني بقوة (3)] عن المقوم الثالث من المقومات الأساسية اللازمة لتحقيق الإصلاح المنشود ودفع الظلم والفساد الموجود وهو (الأخذ بعوامل القوة الجماعية)، حيث ذكرنا بعضا من العوامل الداخلية الضرورية لتحصيل قوة الكيان الجماعية وهي :

 
1- توحيد الفكر ووضوح المنهج وبيان الرؤية الإصلاحية عند جميع الأفراد المتعاونين.
 
2- الحرص على وجود كيان إداري منظم.
 
3- ضبط العلاقات بين الأفراد المتعاونين في ذات الكيان.
 
ونشرع بإذن الله تعالى وتيسيره في استكمال بعضا من هذه العوامل المطلوبة، لا سيما مع كثرة تلك التحديات الخارجية التي تواجه ذلك المَنحى من العمل الجماعي:
 
4- العامل الرابع:
اكتشاف الكوادر والطاقات وتوظيفها توظيفا صحيحا داخل الكيان ...
 
فأي كيان مهما كان لا يستطيع الاستمرار أولا، ولا التأثير ثانيا، بدون وجود كوادر بشرية متخصصة وفاعلة داخله تُعينه على تنوع مجالات التميز للكيان مما يثمر فاعلية وانتشار وتأثير أكبر له في المجتمع المحيط به، وهذا يتطلب أمرين مهمين :
 
- أولاهما :
التعرف على إمكانات الأفراد المتعاونين والموجدين فعليا في الكيان، مع حسن توظيف طاقتهم وإمكاناتهم بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بدون تَسرع أو مجاملة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو القدوة الكبرى لنا جميعا، كان يعرف إمكانات أصحابه جيدا، ويتحرى اختيار قياداته وسفرائه وعماله كلُ فيما يجيد، فهذا مصعب على حداثة سنه يفتح المدينة، وهذا أسامة على صغره يقود الجيش، وهذا (طلق بن علي اليمامي رضي الله عنه كما ذكر في بعض الروايات) وقد كان يحسن عجن الطين يوضع في بناء المسجد - كما جاء في جامع الأصول لابن الأثير: قال ابن الأثير، قال رزين: وجاء رجل كان يحسن عجن الطين، وكان من حضر موت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله امرءا أحسن صنعته" وقال له: "الزم أنت الشغل فإني أراك تحسنه".
 
ولعلنا نتمعن في رفض النبي -صلى الله عليه وسلم- لتولية أبا ذر – رضي الله عنه – في ولاية عامة مع فضله وبذله وحبه له، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي ذرٍ رضي الله عنه، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَىَ مَنْكِبِي. ثُمّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرَ إنّكَ ضَعِيفٌ وَإنّهَا أَمَانَةٌ، وَإنّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلاّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقّهَا وَأَدّى الّذِي عَلَيْهِ فِيهَا) فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرف إمكانيات أصحابه ويضع كلا في مكانه المناسب ...
 
- ثانيهما :
الاهتمام بالشباب وحسن الاعتناء بهم لأنهم الرصيد المستقبلي الحقيقي للكيان مع الاكتشاف المبكر لقدراتهم وتوجيهها في المسار الصحيح وصقلها بالمهارات المطلوبة كصناعة للكوادر المستقبلية لا سيما في المجالات التي فيها قصور واحتياج واضح.
 
ولعلنا ننظر في ذلك إلى أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك الصحابي الشاب النبيه (زيد بن ثابت رضى الله عنه) بأن يتعلم العبرية وكذلك السريانية حتى يقرأ له الكتب التي تأتيه بهذه اللغة، كما جاء في سنن الترمذي بسنده عن زيد بن ثابت قال: "قال أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أتعلم له كلمات من كتاب يهود، قال: إني والله ما آمن يهود على كتابي. قال فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال: فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم"، وفي رواية أخرى: "أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أتعلم السريانية".
 
فقد وجهه -صلى الله عليه وسلم- لما رأى نباهته وقدراته في الحفظ والعلم إلى أن يتعلم أمرا يُحتاج إليه ولا يوجد من يسده.
 
لذلك فإن اكتشاف الكوادر والطاقات والاعتناء بالتخصصات وحسن توظيفها في الكيان يسهم بلا شك في تميز الكيان وقوة تأثيره؛ فيساعد هذا في سرعة إنجازه لمهامه وأهدافه، والعكس بالعكس فعقم اكتشاف الطاقات والمجاملة في سد الثغرات بوضع رجل في غير مكانه المناسب يصنع مشاكل لا حصر لها في العمل تُعيق تنفيذ المهام وتحقيق الانجاز.
 
5- العامل الخامس:
التزام جميع أفراد الكيان بالقرارات الصادرة منه ...
 
فلا شك أن قوة أي كيان تعتمد على مدى الفاعلية والتأثير العام للقرارات التي يتخذها الكيان في المجتمع المحيط به، وهذا يتطلب الالتزام من جميع الأفراد بالقرارات الصادرة، لا سيما إن كانت لا تخالف نصوص شرعية واضحة بل تدور حول الاجتهاد المقبول وتقدير المصالح والمفاسد على المستوى الخاص أو العام، فأما إن كانت تخالف نصا من كتاب أو سنة أو إجماع قديم فحينئذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
 
والحقيقة أن أي قرار داخل الكيان يجب أن يمر بثلاث مراحل :
1) مرحلة ما قبل الشورى:
وفي هذه المرحلة يكون لكل فرد في الكيان أو في أهل الشورى فيه رأي شخصي، طبقا للمعطيات المتاحة له، وطبقا لدرجته العلمية وفهمه واجتهاده وإدراكه للواقع المحيط وتحليله، وفي هذه المرحلة تختلف آراء الأفراد وتكون الآراء هنا (آراء فردية)...
 
2) مرحلة الشورى:
وفي هذه المرحلة تعرض كل تلك الآراء الفردية المختلفة بعد تجميعها ومناقشة أصحابها لعرض آرائهم بوضوح لبيان حجة كل رأي وأسبابه، ثم تجمع هذه الآراء وتفند وتمزج ويوضح فيها كل الإيجابيات والسلبيات المتوقعة لينتج في النهاية - بعد تطبيق الأليات المتفق عليها داخل الكيان - رأي واحد يكون هو (رأي الكيان كله)...
 
3) مرحلة ما بعد الشورى:
في هذه المرحلة يجب أن تنتهي فردية الآراء ويبقى القرار الجماعي، ويبذل كل فرد في الكيان كل جهده في دعم القرار، بالآلية التي تم الاتفاق عليها، حتى ولو كان رأيه هو ابتداء خلاف القرار الجماعي النهائي للكيان، بل يجب على الفرد المنتمي للكيان إن سُئل عن رأيه بعد ذلك فلا يبادر بإجابة إلا (برأي الكيان).
 
ويجب مع هذا أن يعلم الجميع أن مآل القرار قطعا سيؤول إلى أحد أمرين :
 
- إما أن نتائجه ستكون مُوفّقة تحقق المطلوب، فحينئذ فالحمد يكون لله أولا وآخرا.
 
- أو قد تكون نتائجه غير مُوفقة أو غير مُرضية فحينئذ لا يجب تعليق الخطأ على آلية اتخاذ القرار، ولا يجب إلقاء اللوم من الأفراد التي كانت أراءهم مخالفة ابتداء لرأي الكيان النهائي إلى من كانت آراءهم مؤثرة في رأي الكيان النهائي بحجة (أن رأيهم كان صائبا ولم يستمع لنصحهم أحد)، بل يجب تناسي الآراء الفردية السابقة والذوبان في الكيان حتى يصبح نجاح الكيان هو نجاح الفرد فيه، وفشل الكيان هو فشله، ومن ثم يتوجه المجهود إلى البحث عن أسباب الخطأ في القرار ذاته أو في آليات تنفيذه؛ لا سيما أن المباشرون لاتخاذ القرارات وتنفيذها هم أولا وآخرا مجرد بشر قد يصيبون وقد يخطئون.. الواجب عليهم هو استفراغ الوسع في إصابة الحق واتخاذ القرار بآلية سليمة منضبطة شرعا، أما عين إصابة الحق والتوفيق له في غير البينات من عدمه فهذا بيد الله عز وجل وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر". (متفق عليه)
 
لذلك فإن الدرس الواجب تعلمه في هذه الحالة هو ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وقوع الهزيمة في غزوة أحد من عدم اللوم على أصحابه ممن نزل على رأيهم - بالخروج لملاقاة قريش رغم أنه كان يرى ابتداء خلاف رأيهم بالتحصن بالمدينة - أو معاتبتهم على أنهم لم ينزلوا على رأيه، بل ولم تنزل آية من القرآن تعاتبهم على ذلك، إنما كان اللوم والعتاب على سبب منفك عن القرار ذاته وهي معصية الرماة التي وقعت أثناء التنفيذ للقرار كما قال تعالى :
 
(حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
 
لذلك فلا بد أن تنصرف الهمم إلى تحسين آليات اتخاذ القرار داخل الكيان والسعي في حث جميع الأفراد بالالتزام به بعد ذلك حتى لا يتسبب التهاون في تنفيذ القرار من الأفراد من إظهار تشرذم الكيان وضعف أثره في التغير المنشود...
 
وللحديث بقية – إن شاء الله وقدر – في استكمال العوامل المطلوبة للمقوم الثالث [الأخذ بعوامل القوة الجماعية] كما جاء في قوله تعالى: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ}.
 دمنا وإياكم دائما على الخير متعاونين وللصلاح والإصلاح ساعيين.