رمضان.. ونعمة القرآن

  • 182

إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
 
ثم أما بعد،
يقول الله تعالى:  (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)  [البقرة:185].
 
إن أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عباده المؤمنين هي نعمة إنزال الكتاب على الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الشهر الكريم، كما أن من أعظم نعمه التي منَّ بها على عباده المؤمنين أن هداهم بهذا الكتاب، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وأحيا قلوبهم بعد موتها، ونور بصائرهم بعد عماها، وجمع أمورهم بعد شتاتها، كما أنه سبحانه وتعالى يغني قلوب عباده بما أنزل في هذا الكتاب من معاني الإيمان ليستغنوا عما سواه، ومن فضل الله عليهم أن أنزل عليهم هذا الكتاب الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين، قال تعالى:  (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا )[الإسراء:82].
 
وما أشد تفاوت القلوب وتباين منازلها، فالأرض الطيبة يأتي عليها هذا الكتاب فيحييها بعد موتها، وتنبت أنواع الخيرات والبركات، وأما الأرض الخبيثة كقلوب الكفرة والمنافقين الذين لا ينتفعون بالقرآن، ولا يتعظون بمواعظه، ولا يأتمون به، ولا يحلون حلاله، ولا يحرمون حرامه .. فهؤلاء لا يزيدهم القرآن إلا خساراً وطغياناً وكفراً، قال سبحانه وتعالى مبيناً ذلك  (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا)  [المائدة:64]، والمنافقون يزدادون رجساً إلى رجسهم، كما قال سبحانه وتعالى:  (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ)  [التوبة:124-125].
وإذا أردت أن تعلم حقيقة الإنسان الذي تعامله فانظر إليه عند سماع القرآن؟ وفي مواسم القرآن؟ فإذا وجدته من الناس الذين يزدادون إيماناً وهدىً وتفريقاً بين الحق والباطل؛ فيستبصر طريق الحق من طريق الضلالة، ويستهدي بهدى القرآن، فيرشده الله عز وجل إلى التي هي أقوم:  (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)  [الإسراء:9]، فاعلم أن أرض قلبه طيبة، وأما من وجدته في مواسم القرآن والطاعة وعند سماع كتاب الله يزداد مرضاً إلى مرضه، ويغرق في الشبهات، فيلبس بين الحق والباطل، ويغرق في الضلالة غرقاً فاحذره وابتعد منه.
 
والبصير هو المؤمن الذي أبصر معاني أسماء الله عز وجل وصفاته، فأحب الله عز وجل من كل قلبه، وأبصر نعم الله سبحانه وتعالى عليه، وأعظمها نعمة الإيمان والإسلام والإحسان والقرآن والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام:  (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)  [آل عمران:164].
فأعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عبده هي هذه النعمة التي من أجلها وبسببها تتوقد منابع الحب لله عز وجل، ومنابع الرجاء في قلبه، فإن الحب ينبت على حواف أنهار المنن التي يراها الإنسان فيستحضرها فيستقي قلبه منها فيزداد تعظيماً وحباً لله عز وجل، ورجاءاً للقائه سبحانه وتعالى:  (مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت:5]، إن الذي دفع المؤمنين بألا يزنوا بميزان أهل الدنيا، وأن يروا الدنيا صغيرة كما هي عند الله، وأن يروا حقائق الإيمان والدين واضحة كالشمس -هو يقينهم بلقاء الله وإيمانهم به.
 
إن الذي يطلع من القرآن على حال الأنبياء يدرك كيف تتفاوت المنازل عند الله عز وجل بأعمال القلوب وأحوالها في لحظات، ويدرك أنه في أسفل السلم إن كان قد وضع رجله عليه، والذي يدرك أحوال الصالحين الذين قص الله عز وجل علينا قصصهم في القرآن، وقص علينا الرسول عليه الصلاة والسلام قصصهم يدرك ذلك، وقد كانت سيرة صحابته الكرام تطبيقاً عملياً لهذا الصلاح، والإنسان حينها يدرك كم هو صغير لا يساوي شيئاً، وأنه لا يزال في أول الطريق.
 
فانظر إلى ما عوتب عليه الأنبياء والصالحون في لحظات فقط مرت على قلوبهم، فعوتبوا على ذلك، كما تسمع قول الله سبحانه وتعالى عن لوط عليه السلام حين قال:  (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)  [هود:80]، لحظة وقع في قلبه أمراً كان غيره أولى منه، وهو أن يستحضر في قلبه أنه يأوي إلى الله عز وجل كما استشعرها نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار حين قال له صاحبه: لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال: (يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!  لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا  [التوبة:40])، فإنما عوتب على ذلك بسبب بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (رحم الله أخي لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، فسبحان الله! كما يخطر بقلبك أنت من أضعاف هذا الجنس في اليوم؟ ربما عشرات المرات، والواحد منا لا يدري أنه قد أتى نقصاً، وأنه قد قصر.
 
ولما أحب المؤمنون في غزوة بدر العير قال الله لهم:  وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ  [الأنفال:7]، فهذا مجرد خاطر خطر على قلوبهم أن تكون القافلة التجارية هي غنيمة المسلمين بدلاً من الجيش والقتال، فعوتبوا على ذلك ( وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ )[الأنفال:7]، وكم يقع في قلوبنا بالليل والنهار من إيرادات غيرها أولى منها، بل قل من إيرادات فاسدة تصل إلى حد التحريم من الحسد والحقد والتباغض، وسوء الظن بالمسلمين، وتزكية النفس بما ليس فيها، ومدحها بما هي خالية عنه من الإعجاب والكبر والرياء، إلى خواطر وعزائم ربما على المنكر والمعاصي والعياذ بالله، والواحد يسير في طريقه لا يرى.
 
فإذا تأملت هداية القرآن وشفاءه لما في الصدور تبين لك أننا نحتاج إلى علاج طويل، وربما أكثرنا أو كلنا لم يضع قدمه على أسفل السلم الذي درجاته العالية عند الله سبحانه وتعالى، ولا يعلم عددها إلا هو سبحانه وتعالى، والدرجات عند الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض.
 
نفعنا الله عز وجل وإياكم بالقرآن العظيم، وأحيا قلوبنا به، ورزقنا تلاوته آناء الليل وآناء النهار على الوجه الذي يرضيه عنا.