مسألة التكفير بين الإفراط والتفريط

  • 221

إن مصطلحات الكفر والنفاق، والشرك، والفُسوق، مصطلحات استعملها الشرع الإسلامي كتابًا وسنةً، واتّبع أهلُ العلم الكتاب والسنة على ذلك، وأجمعوا في مسائل واختلفوا في غيرها، وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- انقسام كل هذه المصطلحات إلى أكبر، مخرج من الملة، وأصغر، لا  يخرج من الملة، ولا يُنقض أصل الإيمان به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فسأل عنه فقال: "الرياء"، وقال في النساء: "إنكن تكفرن" قيل: "يكفرن بالله"، قال: "يكفرن العشير".
 
وقال للصحابة لما قالوا: "أيّنا لم يظلم نفسه"، عند نزول قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}، فقال: "ليس بذاك، بظلم بشرك، ألم تسمعوا إلى قول الله عزوجل: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"، ومعلوم أن هذه الذنوب لا تُخرج من الملة إجماعًا، إلا من كذب في قوله "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، ونحو ذلك.
 
فعلم بذلك أن المقصود في الحديث هو النفاق الأصغر، وخرج الخوارج عن إجماع أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم، فكفّروا بارتكاب الذنوب والكبائر، وأخرجوا صاحبها من الملة، وحكموا بخلوده في النار، معارضين لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}، بل كانت بدايتهم في التكفير بما ظنوه هم شركًا وكفرًا ومعصية -ولم تكن معصية في الحقيقة- من علي ومعاوية -رضي الله عنهما- لقبولهما التحكيم بمنع سفك دماء المسلمين.
 
وسار على طريق الخوارج جماعات التكفير اليوم، فكفّروا من خالفهم بالشبهة والظن، وإن لم يعلنوا التكفير بالذنوب، بل كفروا من رفض بيعة أميرهم، والدخول في دولتهم المُدعاة، وهو أمر لم يسبقهم إليه أحد، ولا حتى مع الخلافة الراشدة، وكان سلوك هذه الجماعات في التنفير من الإسلام وتشويه صورة الجهاد، بل الشريعة كلها، من أعظم أسباب تأخر العمل الإسلامي في بلاد المسلمين والكفار على السواء، مما لم يقع مثله منذ بداية الصحوة الإسلامية.
 
وعلى الجانب الآخر وجد فريق أخر يوالي في الامتناع عن وصف من وصفه الله ورسوله بالكفر أو النفاق، بل صارت هناك حملة عالمية لإلغاء هذه الأوصاف الشرعية، أو على الأقل تفريغها من مضمونها بالكلية، حتى وصل الأمر إلى رفض تكفير من عبد غير الله، وكذب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذب القرآن، وهذا مخالف للمعلوم من الدين بالضرورة.
 
بل وجد من يدافع عن الملحدين المنكرين لوجود الله –تعالى-
أو عدم تعذيبهم في الآخرة بحجة أنهم غير معاندين، أو أن الإسلام وصلهم بطريقة مشوهة، وكأن طواغيت الأمم عبر الزمان كان يوصلون الإسلام بطريقة صحيحة إلى أتباعهم، ثم رفض هؤلاء الأتباع الحق، وكأن فرعون لم يقل لقومه:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}، ولم يلتفت هؤلاء إلى قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا  إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}.
فكفرُ الإعراض عن الحجة وعدم سماعها وقبولها، ثابت في الكتاب والسنة، ومن تأمل رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر، وفيها: "أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ"، فلماذا أَثِمَ الأريسيّون؟! أي  فلاحو العجم، ولماذا كان على هرقل مثل إثمهم، وكذا على كسرى مثل إثمهم؟، أليس لأجل أنه أضلهما السبيل؟
ولقد بيّن الله مصير الأتباع على جهلهم لإعراضهم عن الحجة يوم القيامة فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}.
 
فهل كان في زمن من الأزمنة طاغوت من الطواغيت يسمح بوصول الإسلام نقيًا صحيحًا إلى قومه دون تشويه؟، لم يقع ذلك قطعًا، بل لم تزل شياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، أي ليغروا بعضهم بعضا، ليغرو عامتهم ويضللوا جهالهم، وقد عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- كل من بلغه خبره فلم يبحث ولم يرفع رأسه بالتفكير في ما بُعث به من كلمتي الشهادة "لا اله إلا الله محمد رسول الله"، معاملة الكفار في الدنيا والآخرة.
 

 قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار".
 
قال أبو محمد بن حزم -رحمه الله- بعد أن بيّن عذر من أخطأ من المسلمين في أي مسألة من مسائل العقيدة والعمل، إذا لم يبلغه عن الله وعن رسوله حجة، قال: " وقال قائلهم، فإذا عذرتم للمجتهدين إذا أخطأوا، فاعذروا اليهود والنصارى والمجوس وسائر الملل فإنهم أيضًا مجتهدون قاصدون الخير، فجوابنا وبالله تعالى التوفيق: أننا لم نعذر من عذرنا بآرائنا، ولا كفرنا من كفرنا بظننا، وإن هذه خطة لم يؤتها الله -عز وجل- أحدًا دونه، ولا ندخل الجنة والنار أحد، بل الله تعالى يدخلها من شاء، فنحن لا نسمي بالإيمان إلا من سماه الله تعالى به، كل ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يختلف اثنان من أهل الأرض -لا نقول من المسلمين بل من كل ملة-  في أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قطع بالكفر على أهل كل ملة غير الإسلام، الذي تبرأ أهله من كل ملة، حاشى التي أتاهم بها عليه الصلاة والسلام فقط، فوقفنا عند ذلك، ولا يختلف اثنان أيضًا في أنه -عليه الصلاة السلام- قطع باسم الإيمان على كل من اتبعه وصدق بكل ما جاء به وتبرأ من كل دين سوى ذلك، فوقفنا عند ذلك
 
ولا يختلف اثنان أيضا في أنه –عليه الصلاة السلام- قطع باسم الإيمان على كل من اتبعه وصدق بكل ما جاء به، وتبرأ من كل دين سوى ذلك، فوقفنا أيضًا عند ذلك، ولا مزيد، فمن جاء نص في إخراجه عن الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له، أخرجناه منه، سواء أجمع على خروجه منه، أو لم يجمع، وكذلك من أجم أهل الإسلام على خروجه عن الإسلام فواجب الاتباع الإجماع في ذلك، وأما من لا نص في خروجه عن الإسلام بعد حصول الإسلام له، ولا إجماع في خروجه أيضاً عنه، فلا يجوز إخراجه، عما قد صح يقينًا حصوله فيه، وقد نص الله تعالى على ما قلنا: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقال تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا}" إلى آخر كلامه، وهو كلام متين يلزم مراجعته، إذ أن البعض قد نقل عن ابن حزم خلاف كلامه قطعًا.

بل الحقيقة أن من بلغه التوراة والإنجيل الحاليين على ما فيهما من تبديل وتحريف فقد قامت عليه الحجة في مسألة التوحيد، إذ أن نصوص التوحيد الباقية في الكتابين تقوم بها الحجة على كل من بلغه.
 
فأول الوصايا العشر في التوراة: " الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ رَبَّ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ"، وفي الإنجيل أن المسيح سُئل: "أيها المعلم أي الوصايا هي أول الكل؟"، فقال: "كما هو مكتوب الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ، رَبَّ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وأن تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ عقَلْبِكَ، وَقلبك، وَفِكْرِكَ"، وأيضا في الإنجيل عن المسيح -عليه السلام- أنه قال في مناجاته لربه: "إن الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ"، وغير ذلك كثير من إثبات الوحدانية لله، والرسالة للمسيح -عليه السلام- وهي عقيدة أهل الإسلام.
 
فمن أصر على القول بالتثليث أو ألوهية المسيح مع ما وصله من نصوص فقد قامت عليه الحجة، فضلًا عن من ينكر النبوات والكتب بالكلية، فضلًا عن الملحدين المنكرين لوجود الله عز وجل.
 
والمسألة المشهورة المعروفة بالتفرقة بين فهم الحجة وقيام الحجة، متقررة عند أهل العلم، وأن المعتبر هو إقامة الحجة بوصولها إلى المكلف بلسان مثله، والمقصود في ذلك في أصل الدين أمر الوحدانية "لا إله إلا الله"، وأمر الرسالة "محمد رسول الله"، فمن كذّب بهما بعد بلوغهما تقليدًا أو اجتهادًا باطلًا فهو غير معذور في الدنيا والآخرة.
 
والخطر في هذا الباب  هو في التنفير من الدين بالحكم بإسلام أو نجاة الكفار الذين حكم الله بكفرهم وخلودهم في النار، فمن الذي يدفعهم للبحث عن الحق إذا كانت النجاة حاصلة لهم، من غير أن يبحثوا عن هذا الدين؟، ثم أعظم من ذلك المخالفة للنصوص الشرعية في بيان حال المكذبين الجهال، والمعاندين بعد وصول خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليهم قال الله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، قال تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.