لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا

  • 191

مَن تأمّلَ وضعَ الحياة البشرية على الأرض، والكمّ الهائل من الفساد المنتشر بالشرك ومحاربة التوحيد، وتكذيب الرسل ومخالفتهم، وفعل الفواحش، والظلم وسفك الدماء بغير حق، يصيبه -بلا شك- حزن وهم وكرب، خصوصا إذا كان قد رزق رِقّة أو رأفة بالبشر والشعور بآلامهم، ويزداد ألمه مع رؤية أن أكثر الفساد والظلم والعدوان يقع على إخوانه المسلمين، والكم الضخم الذي يبذل لنشر الضلال والانحراف في مجتمعاتهم، خصوصا وهي تقاوم مخططات عالمية ومكرٍ بالليل والنهار، وهي تكاد تكون عاجزة، إذ تم تجنيد الملايين من أبنائها ليشاركوا في هذه المأساة الإنسانية، التي هي مأساة للبشرية كلّها فإن بقايا النور إنما هو عند المسلمين؛ فهم مِلحُ العالم، فإذا فسد المِلح فمن يصلح؟


إن البشرية تخسر أعظم خسارة بانحطاط المسلمين وتبعيّتهم لأعدائهم، واستسلامهم لمحاولات طمس هويتهم، ومسخ منهج النبوة المبني على اتباع الكتاب والسنة مع التزكية بتلاوة آيات الله التي بُعِث بها الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: "يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ".


ومع هذا فلابد للمؤمن أن يزيل هذا الحزن المعوِّق من قلبه، باستحضار معيّة الله ومشاهدة حكمته في خلق النوع الإنساني ووجوده في الأرض، وأنه يحب سبحانه أن يعبده المؤمنون وسط الفساد وسفك الدماء، "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"، أي: أعلم وجود الأنبياء، والصديقين والشهداء والصالحين، والعُبّاد والعاملين، والدعاة إلى الله والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، كما قال غير واحد من السلف.


فمن أجلك أنت أيها المؤمن، من أجل عبادتك وجهادك وصبرك خلق الله الشرّ والفساد؛ ليَحصُلَ منك خيرٌ هو أحب إليه من عبادة من يعبده بلا منازعة ولا مجاهدة، لا من نفسه الأمّارة بالسوء التي ابتلي الإنسان بها وما بها من شهوات ورغبات، ولا من حوله من مجتمع الناس وما به من عقبات تُمانِعه وتحاول إبعاده.


وكلّما ازدادت الشهوات والعقبات كلّما ازداد فضل العبادة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء".


فعبادة الله وسط صفوف الأعداء أحبّ إلى من أوجدَك وأوجدَهم وأعطاهم ومكّنَهم "وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعذَابَ الْأَلِيمَ".


فطوبى لشاب يجد الشهوات أمامه في الحرام وهو يتعبد لله بالعفاف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَجِبَ ربُّك من شاب ليست له صبوة" أي ميل وانحراف، مثل قوله تعالى عن يوسف: "وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يُظِلِّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: "ورجل دعته امرأة ذاتُ منصبٍ وجمال فقال إني أخاف الله".


وطوبى لمتمسّكٍ بالسُّنّة وسط  البدع والضلالات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسُنّتي وسُنّةِ الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإن كلّ بدعة ضلالة".

وطوبى لِمُحيي النفس الإنسانية وسط بحار الدماء المسفوكة بغير حق ظلما وعدوانا وكفرا وطغيانا؛ "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا".

وطوبى لمن يحافظ على الصلوات في المساجد وسط الملايين الذين يحافظون على المسلسلات المُنحطّة والأفلام الساقطة.

وطوبى لمن يغض بصره وسط العورات المكشوفة والفواحش السهلة والعريّ الذي يحبه إبليس.

وطوبى لملازم للقرآن تالٍ له وسط من شغلته مُلهيات اللعب واللهو الباطل ومباريات الكرة وروايات الجنس وصداقات الفساد.

طوبى لداعٍ إلى الله وسط موجات الصد عن سبيل الله، طوبى لمعلمي الناس الحكمة والخير وسط موجات الجهل والانحراف.

طوبى لكل غريب في غربته؛ أخي الغريب: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.