مصر وصندوق النقد الدولي

  • 247

مصر والقروض الخارجية:

عرفت مصر كدولة الاستدانة بالقروض الربوية من الخارج في عهد محمد علي باشا وأبنائه من بعده، إذ يذكر عن محمد علي أنه كان يستدين من تجار أوروبا وأهل المال منهم الذين نزلوا مصر، ولكن ديونه كانت دائما صغيرة وقصيرة الأجل، ولا يعقد قرضا إلا إذا عرف مسبقا قدرته على الوفاء به في أجله أو قبله.

وفي عهد الخديوي سعيد بن محمد علي – الذي حكم مصر من عام 1854 م إلى عام 1863 م -  انفتح باب الديون الأجنبية على مصر، إذ  زين له  المرابون الأجانب عقد قرض كبير يغطي منه ديونه الصغيرة الكثيرة، ويتبقى له فائض يمكنه من تمويل بعض المشروعات الإصلاحية، فقبل منهم عقد القرض، رغم أن إيرادات مصر كانت وقتها بخير، وتغطي بحسن التدبير النفقات المطلوبة، وقد قام سعيد بعقد قرضين:

* الأول: في عام 1860 م، وقيمته 28 مليون فرنك، تسلمت منها  مصر  20 مليون وسبعمائة  ألف  فرنك، والباقي ذهب كعمولة ومصروفات حصلت قبل تسلم القرض، وبفائدة قدرها 6%، وتم سداد القرض على خمسة أقساط بين عامي  1861 م و1865 م. وقد أنفق سعيد القرض كله قبل منتصف عام 1861 م.

*الثاني: في يونيو عام 1861 م، وقيمته 60 مليون فرنك، تسلمت منه مصر 35 مليون وخمسمائة ألف فرنك بعد خصم العمولات والمصروفات، وتم سداده على ثلاثين سنة، بفائدة مركبة قدرها فعليا 11%، فبلغ حجم الدين عند كمال سداد مصر له 198 مليون فرنك !!!

ومن عجائب الأمور أن اليابان دخلت بعدنا ميدان التقدم والتطور، ورفض (الميكادو) هذه القروض الربوية صراحة، وقال لمجلس (الشوجن) – أي: مجلس الأشراف والقادة العسكريين-: "إننا نفهم التعامل الجاري المستقيم، ونعترف بأرباح التجارة الشريفة المعقولة، ولكننا  لا نستدين مائة  ين – عملة  اليابان - ونردها مائة وعشرين، ولا نبيع من أرضنا قيراطا  لأجنبي، ولا نرهن من أرضنا شيئا، ولا ننفق إلا على قدر إيرادنا، وما نستطيع الإنفاق عليه من مالنا فعلناه، وإلا فلا داعي له إطلاقا، لأن هذه الأرض وخيراتها ليست أرضنا ولا خيراتنا، بل هي ملك  لشعب اليابان، ونحن أمناء عليه، فاعملوا حسابكم  على هذا ...). (راجع في ذلك: (الربا وخراب الدنيا) تأليف د. حسين مؤنس ص: 51). فكانت اليابان تنفق ثلثي دخلها القومي على نفقاتها الداخلية والمرتبات، ولا تزيد في الإنفاق على مشروعاتها على فائض الإيراد دون أي اقتراض، ولم يسمح لمصرف أوروبي أو أمريكي وقتها أن يفتح فرعا له في اليابان، فأنفقوا – كما يقول د. حسين مؤنس - عشر ما أنفقنا، وكسبوا ألف ضعف ما كسبنا. 

وبعد سعيد جاء الخديوي إسماعيل والذي ندد عند استلامه الحكم بإسراف سلفه وتركه من بقايا دينه، لكنه سرعان ما سلك مسلكه، وزاد عليه، حتى صار يستدين كل عام قرضا جديدا، ينفقه على الكماليات أكثر من أنفاقه على مصالح البلاد الحيوية:

*فاستدان في عام 1864م مبلغ 5,704,200  جنيه إنجليزي، بفائدة فعلية بلغت  12% لمدة 15 سنة. وأنفق جزءا كبيرا من هذا القرض على بناء القصور الفخمة وتوسيع أملاكه وأطيانه.

*واستدان في عام 1865م  مبلغ 3,387,300 جنيه إنجليزي، لم يقبض منه سوى 3 مليون جنيه إنجليزي، والباقي ذهب كعمولات ومصروفات. 

*واستدان في عام 1866 م  مبلغ  3 مليون جنيه إنجليزي.

*واستدان في عام 1867 م قرضا جديدا مقداره 2 مليون و800 ألف جنيه.

*واقترض في عام 1868 م قرضا قدره 11 مليون  و890 ألف جنيه، دخل منه خزانة الدولة فعليا ما قدره 7,195,384 جنيه. ومنه أنفق النفقات الباهظة على الاحتفال بافتتاح قناة السويس عام 1869م، والتي بلغت حوالي 1.5 مليون جنيه.

وقد لفتت هذه القروض الضخمة الباب العالي فأصدر في عام 1869 م  فرمانا يمنع الخديوي إسماعيل من الاقتراض بغير إذنه. فبذل الخديوي جهدا كبيرا وأموالا طائلة في الهدايا والرشا ليلغي هذا الفرمان، فحصل على فرمان يبيح له الاقتراض بدون إذن الحكومة التركية في عام 1872م، فسارع بعقد قرض بمقدار 32 مليون جنيه، وهو أكبر القروض من جهة المقدار، وكان أيضا أسوأها من جهة الشروط.

لقد أساء إسماعيل وبشدة بإسرافه في الاستدانة وبالإنفاق على الكماليات من القصور والمباني الفخمة والحدائق ودار للأوبرا باسم المدنية والرقي وجعل مصر كقطعة من أوروبا، فصارت مصر أسيرة تلك الديون الباهظة وفوائدها التي تبلع ميزانية الحكومة، مما ترتب عليه فتح باب التدخل الأجنبي من الدول الطامعة في مصر في شئون مصر الداخلية المالية ثم السياسية على مصراعيه، ومنح الامتيازات للأجانب، لتفقد البلاد استقلالها المالي ثم السياسي، لينته الأمر بالتدخل العسكري واحتلال مصر.

صندوق النقد الدولي:

منظمة دولية تابعة لمنظمة الأمم المتحدة، مقرها في واشنطن، العاصمة الأمريكية. أنشأ الصندوق بقرار من مؤتمر (بريتون وودز)، لتنمية وتعزيز التعاون النقدي بين الدول، خاصة فيما يحقق استقرار أسعار صرف العملات، إلى جانب التوسع في التجارة الدولية، وذلك بتقديم ائتمان دولي، يسدد على أقساط، وبفوائد ميسرة، مع فترات سماح.

بدأ عمل الصندوق في عام 1947م، وأمواله اللازمة لعملياته تساهم فيها الحكومات أعضاء الصندوق، مع تعهد من أمريكا وعدد من الدول الغربية المتقدمة بتقديم المزيد من المساهمات عند الضرورة. انضمت مصر للصندوق في ديسمبر 1945 م. و بلغت مساهمة مصر في الصندوق 1.5 مليار دولار.

ورغم فكرة الصندوق فإن تجارب الدول التي لجأت إلى الاستدانة من الصندوق في الغالب سيئة، إذ إن الصندوق يلزمها بشروط الدول الغربية المسيطرة عليه، والتابعة   لتوجهها الاقتصادي، والتي سببت للدول المتلقية للقروض الأزمات الاقتصادية والسياسية، التي لم تتعاف منها إلا بالتخلص من سيطرة الصندوق!!! كما حدث ذلك مع المكسيك والأرجنتين والبرازيل واليونان قبل انضمامها إلى منطقة اليورو.

تجارب مصر مع الصندوق:

-رفض الصندوق تمويل مشروع بناء السد العالي في مصر في الخمسينيات لأسباب سياسية، مما دفع عبد الناصر إلى تأميم قناة السويس في يوليو 1956 م؛ للاستفادة من عائداتها في تمويل بناء السد.

-في عام 1977 م في عهد السادات اقترضت مصر 185.7 مليون دولار من الصندوق لمواجهة المدفوعات الخارجية المتأخرة، وزيادة التضخم. واستجابة لشروط الصندوق قامت الحكومة برفع أسعار بعض السلع مما تسبب في الانتفاضة الشعبية في يناير 1977 م.

-وفي عام 1991م اقترضت حكومة عاطف صدقي 375 مليون دولار من الصندوق، وهو القرض الذي فتح باب خصخصة القطاع العام، امتثالا لشروط الصندوق، فتسببت هذه الخصخصة في إضاعة مئات المليارات من الجنيهات والإضرار بالصناعة والاقتصاد المصري.

وتسعى حكومة شريف إسماعيل الحالية للحصول على قرض جديد من الصندوق، لذا سارعت قبل المباحثات النهائية للقرض باتخاذ خطوات يشترطها الصندوق،  كتقليل الدعم للوقود والكهرباء والمياه، ورفع أسعار النقل، وزيادة الضرائب، وزيادة حوافز الاستثمار لرجال الأعمال، وهي إجراءات يراها الكثيرون مخالفة للدستور، وتنافي المطالبة بالعدالة الاجتماعية، وتزيد من متاعب ومعاناة الطبقات المتوسطة والفقيرة ومحدودي الدخل، في ظل أزمات اقتصادية متراكمة، لن تجدي معها إجراءات الحكومة للحماية الاجتماعية في ظل غياب قدرتها على تحقيق العدالة الاجتماعية. على ما في هذا القرض الربوي الكبير من أعباء على أبنائنا والأجيال القادمة.