لبَّيْك اللهمّ لبَّيْك

  • 354

"لبَّيْك اللهمّ لبَّيْك"


هذا الدعاء الذي يتردد في هذه الأيام في أرجاء الأرض، ويتركّز حول بيت الله الحرام، كنز عظيم يُفجّر في القلب ينابيع الحب والشوق إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإن الإنسان الصغير، الضعيف، المحتاج، الذي لا يشغل من الزمان والمكان شيئا يُذْكَر -بل وجوده كالهباءة المنثورة- إذا استشعر أن الله سبحانه -وهو الخالق العلي الكبير، العظيم، الغني، الأول والآخر والظاهر والباطن، القوي العزيز- يريده ويناديه، على ألسنة رسُلِه، وفي كتُبه المنزّلة، يريده لعبادته ومحبته، واصطفاه من بين خلقه لنوع خاص من العبودية، إذ أوجدَه في وسط المخالفات، ليعرفه ويعبده، أوجدَه في وسط من يخالف أمره -سبحانه وتعالى- في داخل نفس الإنسان -شهوات ورغبات مُحرَّمة- وفي خارجِه ومن حوله -شياطين الإنس والجنّ وأعمالهم ومكرهم وكيدهم-، وهو سبحانه اجتباه من وسط ذلك، واختصّه بأعلى أنواع التكريم، وأمَره ونهاه، ودعاه إليه في دار السلام، وهداه الصراط المستقيم.

فأنت أيها المؤمن، كنت مُرادًا حتى تكون مُريدًا مخلِصًا، وأُخلِصت فأخلَصت، أي جعلك الله عز وجل واجتباك واختارك، وجعلك من عباده المخلَصين فصرت مخلِصًا.

كنت قبل وجودك من أهل قبضة اليمين، وعرَفك الشيطان فاستثناك من الإغواء حين قال: "فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ"، فأنت من المخلَصين حتى تكون من المخلِصين.

وربك يناديك؛ فما أجلَّ أن تقول، وما أعظم أن تقول، وما أحلى أن تقول: "لبّيك اللهم لبّيك"، أنا يا ربي ذاهب إليك، مجيب لأمرك، بقلبي وبدني، كما قال إبراهيم عليه السلام فيما حكاه الله عنه فقال: "وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ".

هل تحاول استشعار معنى "إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي"؟! ومعنى الهجرة بالقلب والسفر إليه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والمهاجِر من هجَر ما نهى الله عنه" وقولِه: "العبادة في الهَرْج كهجرة إليّ"؟!، فلماذا كانت العبادة في الفتن تماثل ثواب الهجرة إليه -صلى الله عليه وسلم-؟ لأنها هجرة بالقلب إلى سُنّته وطريقته في عبادة الله؛ فهل نلِج وندخل باب هذا الفضل العظيم في زمان الفتن؟؛ فرصة عظيمة أن تكون من المهاجرين؛ فهل نغتنمها؟ "لبّيك اللهم لبّيك".

وليست الإجابة لله -سبحانه- مرّة واحدة ثم تنقطع، بل هي إجابة بعد إجابة، وإقامة بعد إقامة، على طاعته وعبادته والانقياد لأمره -سبحانه- مرة بعد مرة، أي هو قد أعلن الإجابة وواظب عليها، وأقرّ بالطاعة وامتثال الأمر وواظب على ذلك، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن سأله النصيحة: "قل آمنت بالله ثم استقم"، كما أخبر سبحانه عن عباده المؤمنين: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ توعدون".

وهذ التلبية يحتاجها المؤمن دائمًا، وهي من الأذكارِ العظيمة التي تُعرِّف العبد حقيقة السلعة التي معه -روحه ونفسه- فليضِنّ بها أن يبيعها بالثمن البخس، وشعور العبد بأن الله أرادَه؛ يجعله يكاد يذوب حبا وشوقا لله -سبحانه- وانقيادًا  وذلًا، يجعله مجيبًا على الفاقَة، أي مجيبًا لأمره سبحانه مستشعرا شدة فقرِه وفاقَتِه إلى الله في هذه الإجابة، ليس فقط أنه يحتاج إلى الله في معاشه وحياته، في دقِّ قلبِه، في أخذ نفَسه، في جرَيان دمِه، بل هو محتاج إلى الله عز وجل مفتقر إليه في عبادته، في محبته، في إجابته.

فهو يستشعر إجابته إلى الله سبحانه وتعالى على الفاقَة والحاجة، وهو يحقق "إيّاكَ نَعْبُد" بالإجابة و"إيّاك نستَعين" بالفاقة والفقر إلى الله، إلهًا معبودا محبوبًا.

فأي منّة أجلّ من هذا؟ وهل نستحق كل هذا العطاء؟ إنما هو محض الجود والكرم والمَنِّ.

ولمن فاته حج بيت الله الحرام بِبَدَنه؛ فيمكنه أن يلبي بقلبه ولسانه، كما في دعاء استفتاح الصلاة الذي أوله: "وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين" إلى قوله: "لبّيك وسعدَيك"، وهذا فيه التلبية للحلال، وقد قال الإمام أحمد لا بأس بالتلبية للحلال، لكي يستحضر العبد هذه المعاني العظيمة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن أجابَه فقَبِله وألّا يجعلنا ممن ردّه فحَرَمه.