تركيا التي لا نعرفها... (الانقلابات العسكرية في الجمهورية التركية) ( 4 )

  • 186

جاء الانقلاب العسكري الثالث في تركيا في أعقاب فترة من عدم الاستقرار السياسي في تركيا، صاحبَها -نتيجة المد اليساري الذي ساد فترة السبعينيات في تركيا والعالم - اشتباكات ومواجهات دموية أحيانا، بين الجماعات اليسارية وأنصار الشيوعية من جهة والجماعات اليمينية القومية من جهة أخرى، امتدت إلى الجامعات والمدارس والشوارع العامة ووسائل المواصلات، بصورة شبه يومية.

ولإنهاء حالة الفوضى هذه قام الجيش بانقلابه الثالث بزعامة رئيس الأركان الجنرال ( كنعان إيفرين ) في سبتمبر 1980م، والذي قابله الشعب بالارتياح.

وأعلن قادة الانقلاب أن الهدف من الانقلاب هو استعادة النظام، وإزالة العقبات أمام الديمقراطية في البلاد طبقا للدستور الذي يجيز للجيش هذا التدخل، وعليه تم إقالة الحكومة، وحل البرلمان، وفرض حظر التجول، وإعلان الأحكام العرفية، وتشكيل مجلس للأمن القومي، و تكوين لجنة ضمت 160 خبيرا لإعداد مسودة دستور جديد البلاد.

وتقرر حل الأحزاب، وحظر العمل السياسي على 723 من قدامى الشخصيات السياسية، منهم نجم الدين أربكان و سليمان ديميريل لمدد تتراوح بين 5 – 10 سنوات.

جهود كنعان إيفرين في الثمانينيات:

عُرِف "إيفرين" بشدته العسكرية وصرامته، مع تواضعه وبساطته، فكان مع أبهة السلطة والنفوذ يعيش حياة بسيطة مع جدية والتزام.

شارك ضمن الكتيبة التركية التي حاربت إلى جانب القوات الأمريكية في الحرب الكورية أوائل الخمسينات .

قاد إيفرين الانقلاب وعمره 63 سنة، وقاد السلطة في البلاد لمدة 7 سنوات، ثم أحيل بعدها للتقاعد.

وفي عهده:

-              سمح الدستور الجديد بعودة الحياة الحزبية، مع استمرار حظر العمل السياسي على السياسيين القدامى.

-              شكل إيفرين حزبين أحدهما يميني والآخر يساري، تزعم كل منهما جنرال سابق، و في المقابل أسس (تورجوت أوزال) -وهو مدني- حزب (الوطن الأم).

-              وفي مواجهة تصاعد نشاط الجماعات اليسارية في تركيا خلال السبعينيات عملت المؤسسة العسكرية على استرجاع دور الدين في المجتمع، والتركيز على القيم الروحية والأخلاقية، و إعادة تقديم (الكمالية) -التي يتولون حمايتها- بشكل فيه قدر من التصالح مع الدين.

-              أعيد تدريس الدين كمادة إجبارية في المدارس، و تقديم مفاهيم دينية ترتضيها الدولة وتجنب البلاد المد اليساري فيها، مع الترويج لعدم وجود تناقض بين أن يكون المواطن التركي كماليا علمانيا ينتمي للأمة التركية وينظر للغرب كنموذج وبين أن يكون مسلما صالحا في نفس الوقت.

-              في عام 1983م أجريت الانتخابات من جديد، ففاز بها حزب (الوطن الأم) الذي يتزعمه المدني تورجوت أوزال، بما يعني عدم تجاوب الجماهير مع حكم العسكر.

-              يذكر لإيفرين أنه أعطى الحماية لأوزال ليقوم بتغييرات هامة في الثمانينيات في الحياة السياسية في تركيا .

تورجوت أوزال:

من مواليد 1927م، من عائلة من الطبقة المتوسطة، درس بجامعة إسطنبول الفنية، إحدى أرقى الجامعات التركية، والتي تخرج منها سليمان ديميريل ونجم الدين أربكان.

أوفد إلى أمريكا لنيل دراسات متقدمة، فكانت لفترة دراسته هناك أثرها في أفكاره وأرائه.

تدرج بعد عودته في المناصب الحكومية، وعينه رئيس الوزراء "ديميريل" في 1967م رئيسا لهيئة تخطيط الدولة فأثبت جدارته في العمل.

وبعد سقوط حكومة "ديميريل" بوقوع الانقلاب العسكري الثاني عاد لأمريكا ليعمل خبيرا بالبنك الدولي لحساب أحد مشروعات التعدين والصناعة.

ثم عاد لتركيا في عام 1973م، وعمل كمنسق لإحدى المؤسسات الاقتصادية الخاصة.

التحق بحزب الخلاص الوطني تحت زعامة "أربكان".

ومع نهاية السبعينيات عينه رئيس الوزراء "ديميريل" مستشارا اقتصاديا للحكومة للمساهمة في حل مشكلات الاقتصاد التركي التي كانت بالغة التفاقم وقتها.

وبعد الانقلاب العسكري الثالث دعاه "إيفرين" للعمل في حكومة الانقلاب الأولى مسئولا عن الاقتصاد .

عرف عن "أوزال" أنه من المحافظين المتمسكين بالقيم والتقاليد، إلى جانب ما أكتسبه من الحياة في أمريكا.

أنشأ حزبه (الوطن الأم) ليكون امتدادا لحزب "مندريس" (الديمقراطي) وحزب "ديميريل" (العدالة) في مواجهة الجناح القومي اليساري، متمثلا في حزب الشعب الجمهوري، لكنه أبدى عزمه على استيعاب مختلف التوجهات السياسية، فقوبل في انتخابات 1983م بتأييد كبير من اليمين المحافظ، ويمين الوسط، ممن أيدوا "مندريس" في الخمسينيات و"ديميريل" في الستينيات، حيث حصل على 45% من الأصوات، لغياب المنافسة الحقيقية بسبب الحظر المفروض على قدامى السياسيين، وعدم الإقبال الجماهيري على الحزبين المنافسين لكونهما من صنع الانقلاب العسكري.

أجرى "أوزال" تغييرات جذرية في تركيا سياسيا واقتصاديا مازال لها تداعياتها إلى الآن، منها:

-              أوجد القطاع الخاص التركي، وأرسى له دعائمه، فأوجد له مسارا موازيا للدولة، وأتاح له العمل بحرية وبقواعد غير مقيدة له كالتي تعمل بها أجهزة الحكومة، التي لم يجهد نفسه بإصلاحها أو تطويرها، لذا اعتمد علي القطاع الخاص كثيرا في كل المجالات، معلنا مبدأ (دعه يعمل دعه يمر)، بعد أن كانت تركيا تعاني من سيطرة الدولة على الاقتصاد كما تسيطر على السياسية.

-              رفع الحظر عن سفر المواطنين للخارج، و سمح بحيازة النقد الأجنبي، وفتح الحسابات به في البنوك.

-              قام بإصلاحات إدارية جوهرية، وأصدر تشريعات في مجال تنظيم تداول النقد الأجنبي.

-              قام بتدعيم العلاقات مع الدول العربية، فأوجد مجالا لشركات المقاولات التركية للعمل في ليبيا والعراق والسعودية ودول الخليج، وعرفت المنتجات الغذائية التركية طريقها لهذه الأسواق الجديدة، كما لعبت تركيا دورا وسيطا في النقل البري بين أوروبا ومنطقة الخليج مرورا بالعراق إبان الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، حتى صار أسطول النقل البري التركي الأكبر على مستوى أوروبا، كما ارتفعت صادرات تركيا؛ لذا قل إنفاق الدولة الضخم على الاستثمار في الصناعة، وتحول الإنفاق إلى الخدمات والبنية الأساسية من طرق ومحطات توليد الطاقة وخدمات الهاتف والكهرباء والغاز الطبيعي.

-              أتاحت مماراسات "أوزال" الفرصة لنمو المشاعر الدينية، ونمو الإسلام السياسي. ولأول مرة تمت الموافقة على تأسيس بنوك ومؤسسات مالية على أسس إسلامية دون فوائد ربوية، باعتبار ذلك من ضمن حريات العمل الخاص، وسمح لتلميذات المدارس بإطالة (التنورة).

"أوزال" رئيسا للجمهورية:

رشح "أوزال" نفسه لرئاسة الجمهورية التركية، فوافق عليه البرلمان، ليصبح الرئيس الثامن للجمهورية بعد كنعان إيفرين، الذي استمر 7سنوات في الحكم ( 1982م – 1989م ) بدون انتخابات، وإنما بناء على نتائج الاستفتاء على دستور 1982م، والذي كانت تعني الموافقة عليه موافقة على تولي إيفرين لرئاسة الدولة.

وفي 17 أبريل توفى توجوت أوزال في أنقرة .

أوزال والمؤسسة العسكرية:

-              في يناير 1980م أوفد "ديميريل" -وكان رئيسا للوزراء - "أوزال" -وكان مستشاره الاقتصادي في الحكومة- إلى المؤسسة العسكرية لشرح مضمون قرارات وضعها "أوزال" لحل مشكلات الاقتصاد التركي، فلفت أنظار الجنرالات إليه خاصة رئيس الأركان إيفرين، لذا استدعاه "إيفرين" للعمل في حكومة الانقلاب مسئولا عن الاقتصاد.

-              استطاع "أوزال" إقناع "إيفرين" برفع حظر السفر للخارج عن المواطنين الأتراك، وكان "إيفرين" يخشى من خروج العملة الصعبة من البلاد، كما أقنعه بحرية منح الأنشطة والمحال للتجار حتى لتجار السوق السوداء منهم من باب فتح الحرية الاقتصادية للجميع دون تمييز.

-              قَبِل "أوزال" في أوائل عهده الوقوف تاليا لجنرالات الانقلاب في مراسم الدولة، وتغاضى عن إصغاء بعض وزرائه لتعليمات "إيفرين" أكثر من تعليماته بصفته رئيسا للوزراء.

-              لما أحس "أوزال" بشعبيته وقوته وزعامته خلَف "إيفرين" في رئاسة الجمهورية، وتعهد لقادة الانقلاب بعدم التعرض لهم بعد تقاعدهم، وأوفى بوعده لهم.

-              لقن "أوزال" العسكريين درسا حين أبلغ قائد القوات البرية بأنه سيرفض توصية المجلس العسكري بتعيينه رئيسا للأركان.

-              لما اختلف "أوزال" -وهو رئيس الجمهورية- مع رئيس أركان الجيش حول سياسية تركيا بعد غزو العراق للكويت تقدم رئيس الأركان باستقالته، ولم يكن أحد في تركيا يتوقع ذلك، إذ كان المتوقع عند الجميع أن يتقدم رئيس الجمهورية بالاستقالة.