تركيا التي لا نعرفها (8)... (الانقلابات العسكرية في الجمهورية التركية)

  • 214

أحدث فوز حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه "أردوغان" بانتخابات  2002م  زلزالا سياسيا في تركيا، إذ أصبح للحزب الحق في  تشكيل الحكومة بمفرده، وأصبح حزب الشعب الجمهوري يمثل -بمفردِه- المعارضة، وحرمت باقي الأحزاب بلا استثناء -من بينها حزب "السعادة" الذي يتزعمه "أربكان"- من دخول البرلمان؛ لعدم حصولها على نسبة 10% اللازمة لدخوله، فقدمت (تانسو تشيلر) استقالتها من رئاسة حزب (الطريق القويم)، كما قدم (مسعود يلمظ) استقالته من رئاسة حزب (الوطن الأم).

ونظرا لعدم نيل "أردوغان" عضوية البرلمان بسبب منعِه من الترشح في الانتخابات علي خلفية اتهامه بالتحريض الديني -ويشترط في تركيا في رئيس الحكومة (رئيس الوزراء) أن يكون عضوا بالبرلمان، إلى جانب كونه من الحزب الفائز في الانتخابات-  فقد قام "أردوغان" بترشيح رفيقه (عبد الله جول) لرئاسة الحكومة.

"أردوغان" يرأس الحكومة:

سعى حزب العدالة والتنمية إلى أن يترأس "أردوغان" الحكومة بنفسه، وتم له ذلك حيث:

-           تقدم الحزب بطلب إلى اللجنة العليا للانتخابات لإلغاء نتائج دائرة من دوائر الانتخابات، وتبين صحة الطلب، فألغيت نتائج الدائرة، وبقيت مقاعدها الثلاثة تنتظر إجراء انتخابات تكميلية لها.

-           تم تعديل البرلمان للمادة -في الدستور- التي منعت "أردوغان" من خوض الانتخابات، فأصبح من حق "أردوغان" الترشح، فتقدم للانتخابات التكميلية في هذه الدائرة.

-           وفي مارس جرت الانتخابات التكميلية، وفاز فيها "أردوغان" مع اثنين آخرين من حزبه، و صار بذلك عضوا في البرلمان.

-           تقدم (عبد الله جول) باستقالة حكومته، ليقوم "أردوغان" بتشكيل الحكومة برئاسته.

ملحوظة : كانت الدائرة التي تمت فيها إعادة الانتخابات تقع في نفس المنطقة  التي ألقى فيها "أردوغان" خطابه الذي اتهم بسببه بالتحريض الديني وسُجِن بمقتضاه.

-           تم هذا كله رغم الحملة الإعلامية التي أثيرت حول "أردوغان" وحزبه -قبل وبعد الانتخابات- للنيل منه، فمن ذلك:

-           نشرت إحدى الصحف صورة لأردوغان وهو جالس أيام شبابه في الثمانينات بجانب قلب الدين حكمتيار أحد قادة الجهاد الأفغاني.

-           تسليط الضوء على واقعة اصطحاب رئيس البرلمان -وهو من حزب العدالة والتنمية- لزوجته وهي ترتدي غطاء الرأس في أحد مراسم الدولة، وهو من الأمور الممنوعة طبقا لقوانين الدولة العلمانية.

-           التركيز على واقعة تجمع بعض أعضاء البرلمان من الحزب الحاكم للصلاة في  بهو أحد فنادق العاصمة قبل تناول الإفطار في رمضان، بما يعد تحدّيًا لعلمانية الدولة.

جهود حكومة "أردوغان" الأولى:

-           بدأ "أردوغان" جولاته الخارجية بزيارة دول أوروبية وزيارة أمريكا، وهي الدول التي يرى العلمانيون في تركيا زيارتها، خلافا لأربكان الذي بدأ زياراته لدول عربية وإسلامية.

-           لم تفتعل حكومة "أردوغان" أية مشكلة مع الدولة بعد توليها السلطة، حتى في القضايا التي تهم القاعدة الشعبية  للحزب؛ لتجنب أي مواجهات جانبية.

-           لم تتعرض الحكومة لالتزامات تركيا في حلف الناتو .

- كما  قام "أردوغان" بزيارة عدد من العواصم الأوروبية لحشد التأييد اللازم لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.

-           في المنتدى الاقتصادي الإسلامي بجدة عام 2004م لم يؤيد "أردوغان" فكرة إقامة السوق الإسلامية المشتركة؛ اكتفاءً بتعزيز العلاقات بين الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، خلافا لما كانت عليه توجهات حزب "الرّفاه".

-          لم يبد الحزب تشددا في التمسك بما يمس الدين، فمن أمثلة ذلك:

- أن المطعم الموجود بمقر الحزب لم يغلق في نهار رمضان قبيل إجراء الانتخابات، و  في حفل إفطار رمضاني أقامه الحزب في أحد الفنادق بالعاصمة -حضَرَه سفراء أجانب- لم يمنع تقديم المشروبات الروحية لمن أراد.  

-           في الاحتفال بذكرى تأسيس البرلمان أعلن رئيس البرلمان أن زوجته -وهي ترتدي غطاءً للرأس- لن تحضر الحفل؛ وذلك خشية امتناع رئيس الجمهورية ورئيس أركان الجيش وزعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض عن حضور الحفل.

-           عدم وقوع أي مظاهرات احتجاجا على منع الطالبات المحجبات من دخول الجامعات طوال عام بأكمله، رغم تكرار هذه المظاهرات بكثرة قبل وصول الحزب للسلطة.

لقد أعطى "أردوغان" من خلال قيادته للحزب انطباعا عاما بأنه يفصل السياسية عن المعتقدات الأيديولوجية التي يحملها؛ لذا فهو  يتبني سياسات كان يرفضها إبان عضويته في حزب "الرّفاه"،  للحفاظ على اتساق الدولة العلمانية والحكومة، ويميل إلى المهادنة لتجنب مواجهات لا داعي لها، وإن كان ذلك يتعارض مع رؤى الحزب على المدى القريب، ولا يعني ذلك بالضرورة تخلّيه عن معتقداته نهائيا.

لقد استفاد "أردوغان" من مناداة الديمقراطية بالحرية، وقَبِل آلية الاختيار للشعب؛ فوصل بذلك للسلطة، وكان يدرك أن الشعب بنزعته الدينية سيختاره.

ولم يدخل "أردوغان" في نزاع مع الدولة والمؤسسة العسكرية؛ بسبب تشددها في منع الحجاب في الوظائف العامة والدوائر الرسمية والجامعات، في الوقت الذي جعل ابنته التي ترتدي الحجاب تستكمل دراستها الجامعية خارج تركيا، وكان يتعمد اصطحاب زوجته المحجبة في زياراته الخارجية، ويوَجِّه بعض الصحف الموالية له بنشر صورهما في هذه الزيارات، ومن أشهرها صورة تجمعه وزوجته والرئيس الأمريكي في حفل عشاء رسمي  بالبيت الأبيض، ولسان حاله يقول للعلمانيين إن العالم كله يقر بحرية تحجب النساء بينما ترفضه فقط "الدولة الكمالية".

 

في مجال الاقتصاد:

تسلمت حكومة أردوغان السلطة والاقتصاد في حالة يرثى لها: حيث انحدرت نسبة النمو إلى سالب 5و7% ، وفقدت العملة التركية قيمتها أمام "الدولار الأمريكي"، وتراجع دخل الفرد بنسبة  20 % ، وأعلنت عشرات الآلاف من المؤسسات الاقتصادية الصغيرة إفلاسها، وبلغت نسبة الدَّيْن العام 74 % من الناتج المحلي، وتدهورت الصادرات التركية بشِدّة، و ارتفع معدل البطالة، خاصة بين الشباب سواء في الريف أو المدن.

لذا كانت غالبية الشعب في حالة من اليأس من القدرة على الإصلاح، وزاد الأمر سوءا:

-           تفاقم الديون الخارجية والداخلية، حيث تجاوز حجم الدّين الخارجي في عام 1999م حاجز المائة مليار دولار، وبفائدة سنوية تزيد على خمسة مليارات دولار، وبلغ الدين الداخلي 6و63 مليار دولار.

-           التقصير و الإهمال في تحقيق أقصى استفادة ممكنة من أموال هذه الديون، وأهدر منها الكثير فيما لا يعود على الدولة بالنفع المنشود.

-           انضمام تركيا في عام 1996م  إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي، وبالتالي إلغاء الرسوم والضرائب الجمركية على البضائع الأوروبية، كخطوة أولي لدخولها للاتحاد الأوروبي، الذي ترتب عليه:

-           خسارة تركيا ما يعادل 4 مليارات دولار سنويا كانت تحصل عليها الجمارك من البضائع الأوروبية المستوردة.

-           عدم قدرة الصناعات التركية الناشئة على منافسة الصناعات الأوروبية المتقدمة التي غزت الأسواق التركية؛ فتوقف الكثير من المصانع التركية، وسُرِّح الآلاف من عمالها.

-           الإسراف والفساد الحكومي الذي أضاع عشرات المليارات على البلاد، بالإضافة إلى عمليات النهب لعشرات المليارات من أرصدة البنوك الحكومية من خلال إقراض لرجال أعمال وشركات بدون ضمانات كافية، ثم هروبهم بها إلى الخارج.

-           الإنفاق العسكري الباهظ، في ظل انعدام أية رقابة من الحكومة أو البرلمان على نفقات المؤسسة العسكرية.

وقد نجح "أردوغان" في فترة حكومته الأولى في تحقيق طفرة واضحة، في العديد من قطاعات الدولة، انعكست بشكل واضح على الحياة المعيشية:

-           فتم تنفيذ مئات المشروعات الاقتصادية التي كانت جاهزة الإعداد من الحزب قبل الوصول للحكم.

-           القدرة على طمأنة أصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال على أموالهم ومشروعاتهم، خاصة الأتراك؛ فكانت مشروعاتهم الضخمة -بتشجيع من "أردوغان" شخصيا- عماد النهضة الاقتصادية التي حدثت.

-           القدرة على تحسين أجواء الاستثمار، فصارت تركيا من أكثر الدول جذبا للاستثمار الخارجي، فزادت القوة الشرائية للأتراك بشكل سريع، وتنوعت أسواق صادرات تركيا، وتضاعفت صادراتها بسرعة.

و على ذلك: زاد متوسط النمو الاقتصادي في تركيا من عام 2002م بأكثر من 6 %  سنويا، و انخفضت معدلات البطالة، وانخفض الدّين العام من 74 % من الناتج المحلي في عام 2002م إلى 39 % في نهاية عام 2007 م.

وقد حرصت حكومة "أردوغان" الأولى على محاربة الفساد والإسراف الحكومي.

ومن أمثلة ذلك قيامها ببيع آلاف الفيلات والدور والسيارات التي كان يستخدمها  كبار موظفي الدولة، إذ كانت الحكومة تملك 3و235 ألف فيلا ودار مخصصة للموظفين، منها ما هو  للاستجمام في الصيف، بالإضافة إلى  3و86 ألف سيارة رسمية. وتم إيداع قيمتها في خزانة الدولة. 

ولدعم الطبقات الفقيرة وتشجيع التضامن الاجتماعي قامت الحكومة:-

-           بتوزيع الكتب على طلاب المدارس مجانا، وتخصيص مساعدات للطلاب المحتاجين.

-           توزيع مليون ونصف مليون طن من الفحم سنويا للفقراء في المناطق الباردة دون مقابل.

-           بناء 280 ألف شقة سكنية وتسليمها لعائلات فقيرة بأقساط ميسرة.

-           تقديم المساعدات المالية للفقراء، والقروض للطلاب في مراحل التعليم الإلزامي.

-           تحسين أحوال المستشفيات، وتوزيع عشرة ملايين بطاقة خضراء على الفقراء يحصلون بمقتضاها على العلاج المجاني من بعض المستشفيات.