الحقيقة والمجاز في صفات الله عز وجل (4)

  • 172

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عبدُه ورسولُه، ثم أما بعد..

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكذلك "فِعله" -يعني فعل الله عزّ وجلّ-، نعلم أن الخلق هو إبداع الكائنات من العدم، وإن كنا لانكيف ذلك الفعل ولايشبه أفعالنا، إذ نحن لانفعل إلا لحاجة إلى الفعل، والله غني حميد.

وكذلك "الذات"، تعلم من حيث الجملة، وإن كانت لاتماثل الذوات المخلوقة، ولايعلم ما هو إلا هو، ولا يدرك لها كيفية، فهذا هو الذي يظهر من إطلاق هذه "الصفات"، وهو الذي يجب أن تحمل عليه.

فالمؤمن يعلم أحكام هذه الصفات وآثارها، وهو الذي أريد منه، فيعلم أن الله على كل شيئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شيئ علما، وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، وأن المؤمنين ينظرون إلى وجه خالقهم في الجنة، ويتلذذون بذلك لذة تنغمر في جانبها جميع اللذات، ونحو ذلك.

كما يعلم أن له ربًا وخالقًا ومعبودًا، ولايعلم كنه شيئ من ذلك، بل غاية علم الخلق هكذا، يعلمون الشيئ من بعض الجهات، ولا يحيطون بكنهه، وعلمهم بنفوسهم من هذا الضرب.

قلت له: أفيجوز أن يقال: إن الظاهر غير مراد بهذا التفسير؟، فقال: هذا لايمكن.

فقلت له: من قال: إن الظاهر غير مراد، بمعنى: أن صفات المخلوقين غير مرادة، قلنا له: أصبت في "المعنى"، لكن أخطأت في "اللفظ"، وأوهمت البدعة، وجعلت للجهمية طريقا إلى غرضهم، وكان يمكنك أن تقول: تمُر كما جاءت على ظاهرها مع العلم بأن صفات الله تعالى ليست كصفات المخلوقين، وأنه منزه مقدس عن كل ما يلزم منه حدوثه أو نقصه.

ومن قال: "الظاهر غير مراد" بالتفسير الثاني- وهو مراد الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة وبعض الأشعرية وغيرهم- فقد أخطأ.

ثم أقرب هؤلاء "الجهمية" الأشعرية يقولون: إن له صفات سبعًا، الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، وينفون ما عداها، وفيهم من يضم إلى ذلك "اليد" فقط، ومنهم من يتوقف في نفي ما سواها، وغلاتهم يقطعون بنفي ما سواها.

وأما المعتزلة، فإنهم ينفون الصفات مطلقا ويثبتون أحكامها، وهي ترجع عند أكثرهم إلى أنه عليم قدير، وأما كونه مريدا متكلما، فعنده أنها صفات حادثة، أو إضافية، أو عدمية، وهم أقرب الناس إلى "الصابئين الفلاسفة" من الروم، ومن سلك سبيلهم من العرب والفرس، حيث زعموا: أن الصفات كلها ترجع إلى سلب أو إضافة، أو مركب من سلب وإضافة، فهؤلاء كلهم ضلال مكذبون للرسل.

ومن رزقه الله معرفة ما جاءت به الرسل، وبصرا نافذا، وعرف حقيقة مأخذ هؤلاء، علم قطعا أنهم يلحدون في أسمائه وآياته، وأنهم كذبوا بالرسل وبالكتاب وبما أرسل به رسله، ولهذا كانوا يقولون: إن البدع مشتقة من الكفر وآيلة إليه" ...

ومرادهم الأشعرية الذين ينفقون الصفات الخبرية، وأما من قال منهم بكتاب "الإبانة" الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة (1)، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لاسيما وأنه بذلك يوهم حسنا بكل من انتسب هذه النسبة، وتنفتح، بذلك أبواب شر، والكلام مع هؤلاء الذين ينفقون ظاهرها بهذا التفسير.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: قلت له: إذا وصف الله نفسه بصفة، أو وصفه بها رسوله، أو وصفه بها المؤمنون -الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم- فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلال الله سبحانه، وحقيقتها المفهومة منها إلى باطن يخالف الظاهر، ومجازٍ ينافي الحقيقة، لابد من أربعة أشياء:

-أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي؛ لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء بلسان العرب، ولايجوز أن يراد بشيئ منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلابد أن يكون ذلك المعنى المجازي ما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنح له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.

-الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة، فلابد له من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف، وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلابد من دليل مرجح للحمل على المجاز.

-الثالث: أنه لابد من أن يسلم ذلك الدليل -الصارف- عن معارض، وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة امتنع تركها، ثم إن كان هذا الدليل نصًا قاطعًا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهراً فلابد من الترجيح.

-الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته، فلابد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته، وأنه أراد مجازه، سواء عينه أو لم يعينه، لاسيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم دون عمل الجوارح، فإنه -سبحانه وتعالى- جعل القرآن نورا وهدى، وبيانًا للناس، وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

ثم هذا "الرسول" -الأمي العربي- بُعِث بأفصح اللغات وأبين الألسنة والعبارات، ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علمًا، وأنصحهم للأمة، وأبْيَنهم للسُنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره إلا وقد نصب دليلاً يمنع من حمله على ظاهره، إما أن يكون "عقليًا ظاهرا"، مثل قوله "وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ" "النمل:23"، فإذا كل أحد يعلم بعقله ان المراد: وأؤتيت من جنس ما يؤتاه مثلها، وكذلك: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)"الأنعام:102"، يعلم المستمع أن الخالق لايدخل في هذا العموم، أو "سمعيا ظاهرا"، مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعض الظواهر.

ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفي، لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء أكان سمعيا أم عقليا، لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى وأعاده مرات كثيرة، وخاطب به الخلق كلهم، وفيهم الذكي والبليد والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ويعقِلوه ويتفكروا فيه ويعتقِدوا موجبه، ثم أوجب ألا يعتقدوا بهذا الخطاب شيئا من ظاهره، لأن هناك دليلا خفيا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره، وكان هذا تدليسا وتلبيسان وكان نقيض البيان وضد الهدى، وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان.

فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد؟! أم كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة!؟

-------

(1)المعروف أن أبا الحسن الأشعري -رحمه الله- مرّ بثلاث مراحل:

-في بداية نشأته: كان على منهج المعتزلة، ثم ناظَرَهم في مسألة اللطف والأصلح، وكانت سبب تحوله عنهم.

-وفي المرحلة المتوسطة كان -في كثير من المسائل- بين أهل السنة والمعتزلة، كمسائل الصفات مثلا؛ فأثبت بعض الصفات وأَوّلَ البعض، وبقيت عليه بقية من الاعتزال فيها، وفي بعض المسائل كان على النقيض تمامًا من منهج المعتزلة، وأخذ بقول مخالفيهم حتى خالف أهل السنة، فكان في مسائل القدَر يميل إلى الجَبر، وفي مسائل الإيمان يقول بقول المرجئة، بل الجهمية.

-وفي المرحلة الأخيرة ألّف: "الإبانة عن أصول الديانة"، و"مقالات الإسلاميين" رجع فيهما إلى اعتقاد أهل السنة بحمد الله.

لكن المرحلة المتوسطة هي التي تأثر بها أكثر المنتسبين إليه، فصار الأشاعرة على منهج يخالف أهل السنة في كثير من الأصول، وإن وافقوهم في كثير منها أيضا بالمقارنة إلى المعتزلة والجهمية وغيرهم، فأراد شيخ الإسلام أن يبين الفرق بين بعض المنتسبين لمذهب الأشعري ممن يقول بما قاله في الإبانة، وبين البعض الآخر الذي بقي على المرحلة المتوسطة، والتي كان يقول فيها بنفي الصفات الخبرية عدا الصفات السبع، وقد بيّن شيخ الإسلام -رحمه الله- أن الانتساب إليه يعد بدعة، لأن الواجب اتباع نصوص الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة جميعا، دون تخصيص واحد منهم بالاتباع خصوصا إذا كان مع التعصب المذموم والتقليد الأعمى، ولاسيما أنه ليس من الأئمة الذين أجمعت الأمة على إمامتهم كمالك والشافعي وأحمد والسُّفيانين وغيرهم من أئمة الحديث؛ لما ينسب إليه من أقوال مخالفة لأهل السنة، ولو كان قد رجع عنها بعد ذلك، كما أن انتساب بعض الأفاضل إليه، ولو على ما في كتاب "الإبانة" قد يوهم من لا يعلم أن كل من انتسب إليه حتى ولو كان متابعًا له على ما كان يقوله من البدع قبل رجوعه .. أنه على الحق كذلك.