تركيا التي لا نعرفها (11)... (الانقلابات العسكرية في الجمهورية التركية)

  • 228

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية تطورا كبيرا في فترة حكومة "أردوغان" الثانية، خاصة خلال وبعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة (من27 ديسمبر 2008م إلى 18 يناير 2008م).

فلقد ورثت حكومة "أردوغان" -من الناحية الرسمية- علاقة تركية - إسرائيلية تقارب الشراكة الإستراتيجية؛ إذ كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بقيام دولة إسرائيل، وتبادلت معها السفراء. وطوال عقود اشتركا معا إقليميا في القلق تجاه سوريا وروسيا، وإن كان لكلٍّ وجهته، واشتركا معا عالميا في الموالاة بقوة لأمريكا والغرب، كما تعاونا معا في النواحي العسكرية.

أما من الناحية الشعبية: فقد كان هناك تعاطفا من الشعب التركي مع الشعب الفلسطيني، ازداد وضوحا في عهد (أربكان) خاصة، ثم بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000م، مما منح "أردوغان" إمكانية إعادة تقييم العلاقة مع إسرائيل وتحجيمها بالتدريج وعلى مهل؛ تجاوبا مع نبض الشارع التركي الذي انتخبه من جهة، واستثمارا لذلك في تنمية علاقاته مع الدول العربية و الإسلامية من جهة أخرى.

وقد مضت فترة حكومة "أردوغان" الأولى هادئة، ولكن لما فازت "حركة حماس" (قائمة الإصلاح والتغيير) بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني (70 مقعدا من 132 مقعدا، أي أكثر من 50 % من المقاعد) في الانتخابات التشريعية التي أجريت في 25 يناير 2006م، و شكلت -بالتالي- الحكومة الفلسطينية بمفردها، سارع "أردوغان" إلى الاعتراف بها كممثلة عن الشعب الفلسطيني، واستقبل وزير خارجيته -عبد الله جول- وفدا لحركة "حماس" بقيادة خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة، كجزء من جهود "أنقرة" لتعزيز عملية السلام في الشرق الأوسط، ولم يلتفت "أردوغان" إلى رد فعل ذلك على إسرائيل وأمريكا.

ولما اعتقلت إسرائيل أعضاء من المجلس التشريعي الفلسطيني وفرضت حظرا اقتصاديا وسياسيا على الشعب الفلسطيني -بغرض إرهاقه و لإسقاط حكومة "حماس"- ثم اعتدت على (غَزّة والضفة الغربية)؛ نددت الحكومة التركية بتلك الاعتداءات، وشجعت استنكار الشعب التركي ومنظمات المجتمع المدني لها، أي تحولت تركيا من التأييد المطلق لإسرائيل إلى معاملة فيها نِدّية، تحاسب تركيا فيها إسرائيل على أخطائها، و تطالبها بأداء ما عليها من التزامات.

وفي فترة حكومة "أردوغان" الثانية قامت إسرائيل بعدوان إجرامي جديد على "غَزّة" في يناير 2008م، فاستنكرته حكومة "أردوغان" بشدة، لكونه ضربة موجهة لعملية السلام.

ثورة "أردوغان" على "بيريز" في منتدى "دافوس":

في جلسة عقدت على هامش منتدى "دافوس" الاقتصادي العالمي في 29 يناير 2009 م: انتقد الحاضرون الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين في "غَزّة" في حضور الرئيس الإسرائيلي (شيمون بيريز)، خاصة "أردوغان" الذي اتهم إسرائيل بقتل الأطفال دون ذنب، وكشف عن أنه جلس مع (إيهود أولمرت) رئيس الحكومة الإسرائيلية في "أنقرة" قبل العدوان على "غزة" بأربعة أيام وأبلغه أن تركيا -بما تقدمه من جهود- قادرة على تحقيق اتفاق هدنة آخر مع "حماس"، و أنه بالإمكان التقدم في صفقة تبادل الأسرى، ومنهم الجندي الإسرائيلي الأسير لدى حماس (جلعاد شَليط)، وأن إسرائيل باعتدائها بعدها على "غزة" تجاهلت واستهانت بوساطة تركيا.

وجاء رد "بيريز" بلهجة حادة، فقرأ -منتقدا- الفقرات الواردة في ميثاق "حماس" الرافضة لوجود إسرائيل، ومتهما "حماس" بقتل الأطفال وترويع المدنيين الإسرائيليين، ووجه كلامه لأردوغان قائلا: (هل كنت تسمح يا سيد "أردوغان" بأن يطلق 100 صاروخ في اليوم أو حتى 10 صواريخ على إسطنبول؟)؛

فصفق جمهور الحاضرين لبيريز، فأصر "أردوغان" على الرد عليه، و قال له -وبصوت عالٍ-: (أنت لست صاحب حق، وحجتك ضعيفة، لذلك اخترت أن ترفع صوتك بشكل غير دبلوماسي، ولكن الحقيقة تبقى أن "حماس" أطلقت صواريخ بدائية تسقط بمعظمها في مناطق مفتوحة، و أنتم قصفتم بيوتا وهدمتموها فوق رؤوس أهلها من الأطفال والنساء، وأنه كان بالإمكان التوصل إلى تهدئة وسلام، و أنتم اخترتم طريق الحرب، إنكم يا سيادة الرئيس قَتَلة أطفال). ثم قام "أردوغان" بمغادرة القاعة غاضبا.

وقد استقبل آلاف الأتراك "أردوغان" لدى عودته إلى تركيا بعدها وهم يلوحون بالعلمين التركي والفلسطيني.

و قد ألغت حكومة "أردوغان" مناورات عسكرية كبيرة كانت ستجرى في تركيا بعنوان (نسر الأناضول) في أكتوبر 2009 م بمشاركة حلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو) بما فيها أمريكا، وذلك لاشتراك الطائرات الإسرائيلية فيها، وجاء في مقال لرئيس قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة "بن جوريون" على موقع صحيفة (يديعوت أحرونوت): "إن قيام "أنقرة" بإلغاء المشاركة في المناورات واتفاقها التاريخي مع أرمينيا يعبران عن رغبة دفينة في التحول إلى قوة إقليمية".

الاعتداء على أسطول الحرية:

في فجر 31 مايو 2010م هاجمت القوات الإسرائيلية "أسطول الحرية" المتجه -بمساعدات إنسانية- لكسر الحصار المفروض من إسرائيل على "غزة"،ويضم الأسطول 8 سفن تقودها السفينة التركية (مرمرة)، وتقل 650 متضامنا مع "غزة" من أكثر من 40 دولة، من بينهم 44 شخصية رسمية وبرلمانية وسياسية أوروبية وعربية، وأسفر الهجوم عن مقتل 20 واعتقال المئات من ركاب الأسطول معظمهم من الأتراك.

فهاجم "أردوغان" إسرائيل بشدة، وحذرها من معاداة تركيا لأن عداوتها قوية مثل صداقتها، وقام باستدعاء السفير التركي من تل أبيب، ودعا المنظمات الدولية والإقليمية إلى البحث في هذه الجريمة، مؤكدا على أن هذا التصرف لن يمنع تركيا من مواصلة الدعم للفلسطينيين.

ويرى المتابعون أن "أردوغان" لم يقطع العلاقات تماما مع إسرائيل؛

تحسبا لرد فعل المؤسسة العسكرية التركية التي ترتبط بعلاقة قوية مع الكيان الصهيوني، وربما أقدمت على القيام بانقلاب عسكري في تركيا حال قطع العلاقات.

ولتسكين حالة الاحتقان لدى قادة الجيش والعلمانيين في تركيا؛ قام "أردوغان" -في لفتة إعلامية- بإرسال قاذفتين للمياه للمشاركة في إطفاء حرائق ضخمة شبت في منطقة جبل الكرمل قرب حيفا بفلسطين المحتلة وتسببت في مقتل أربعين شخصا.

ملحوظة: وافقت إسرائيل في هذا العام -2016م- على تقديم تعويض لتركيا قدره 10 ملايين دولار؛ مقابل ما لحقها من الهجوم على "أسطول الحرية" في مقابل توقف تركيا عن إثارة الموضوع أمام المحافل الدولية، وإعادة السفير التركي إلى إسرائيل، ومواصلة التطبيع معها من جديد.

وفاة (نجم الدين أربكان):

في 27 فبراير 2011م توفي "أربكان" -رحِمَه الله- وعمره 85 عاما، بعد صراع طويل مع المرض.

وقد حرص "أردوغان" على المشاركة في تشييعه؛ بقطع زيارته الرسمية لألمانيا، وشارك في جنازته التي شهدها مئات الألوف من الأتراك، وأغلقت بسببها معظم شوارع مدينة "إسطنبول" الرئيسية. وقد تأثر حزب السعادة الإسلامي الذي كان يتزعمه كثيرا برحيله.

فوز "أردوغان" بانتخابات 2011م:

حقق حزب العدالة والتنمية الحاكم في يونيو 2011م فوزا كبيرا في الانتخابات البرلمانية بنسبة 5و50 % من أصوات الناخبين، و327 مقعدا في البرلمان (550 مقعدا)، في اقتراع حضره 7و86 % من الناخبين.

مما أَهّله -من جديد- لتشكيل حكومته الثالثة -على التوالي- بمفرده، في سابِقَةٍ لم تشهدها تركيا من قبل.

وقد تميزت هذه الانتخابات:

- بتنافس 15 حزبا سياسيا.

- الإقبال الشديد من الناخبين.

- تجنب الأحزاب التركية -لأول مرة- الخوض في المسائل الأيديولوجية، والتركيز على عرض مشروعات سياسية وتنموية محددة.

- ضعف الشحن الإعلامي والاتهامات الموجهة ضد "أردوغان" عما سبق من قبل، وفسّره البعض بقناعة الكثيرين بقدرة "أردوغان" على الفوز بالانتخابات.

- أعلن حزب العدالة والتنمية أنه سيقوم -حال فوزه بالانتخابات- بإعداد دستور جديد للبلاد محل الدستور الذي وضع بعد انقلاب 1980 م العسكري، لتحقيق المزيد من الإصلاحات السياسية في البلاد.

- كما تعهد "أردوغان" بجعل تركيا من أكبر عشر اقتصاديات في العالم بحلول عام 2023، وجعل ذلك الأمل هو شعار حملته الانتخابية.

- عمد رؤساء الأحزاب المنافسة إلى محاولة تشويه صورة "أردوغان" فاتهموا حكومته و حزبه بالفساد الإداري والمالي، واستغلال النفوذ لتحقيق مصالح شخصية، و إيجاد طبقة "برجوازية" إسلامية؛ نتيجة ظهور مجموعات اقتصادية في ساحة الأعمال التركية مُقَرَّبة من "أردوغان". واتهمه البعض بزعزعة هيبة الدولة؛ من خلال الزج بقادة عسكريين في السجون بتهم تعكس رغبة في الانتقام من المؤسسة العسكرية.

تعرض "أردوغان" لمحاولة اغتيال فاشلة؛ بهجوم مسلح على موكِبِه قبيل الانتخابات في 3 مايو 2011م قتل فيه أحد حُرَّاسه وأصيب آخر.