وثيقة المدينة (10) .. معالم قضائية وحقوقية

  • 237

تضمنت وثيقة المدينة أهم مبادئ العدل الإسلامية التي بُنيت على قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.

وهذه المبادئ الإسلامية هي التي تمثل حقوق الإنسان الحقيقية التي شرعها الله، والتي تخَلَّفَت عنها البشرية المخالِفة لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- قرونًا طويلةً، حتى أقرَّتها نظريًّا فيما يُسمى بالمواثيق الدولية، ولا تزال متخلفةً عنها تطبيقًا عمليًا إلى يومنا هذا، لا تعمل بما أقرَّته في المواثيق، ولا تُنَفِّذ ما التزمت به الدول من تعهُّدات، إلا تبع الهوى، وبالعصبية القومية دون مراعاة لحقوق باقي البشر الآخرين، في حين كان التنظير والتطبيق العملي في دولة الإسلام الأولى الشامخة متلازمين.

وكانت وثيقة المدينة مع اليهود تمثل الأساس القانوني للتعامل بقواعد هذا الدين العظيم مع رعايا الدولة المسلمة من المسلمين واليهود، وبالاصطلاح المعاصر "المواطنين"، أي: الذين يشتركون في الوطن الواحد وتحت قيادة موحَّدة في شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك العهد، والذين يسعون إلى تحقيق مصالح مشتركة لهم من خلال التعايش الآمن بينهم، مع احتفاظ كل بدينه مع قيادته وعبادته وشخصيته المستقلة، وأنه لا يلزم ما يحاوله البعض -بل الأكثر- من فرض صورة "المواطنة" التي يُهدم فيها الدين وقواعده، بزعم المساواة بين الأديان التي لاتحصُل شرعًا ولا قدرًا بالطريقة التي يدعون إليها ولا يطبقونها إلا حسب الهوى؛ فالأديان لا يمكن أن تتساوى، وهي متناقضة في الاعتقادات والعبادات والمعاملات والحلال والحرام، في حين أن التعايش بالقواعد العادلة والحقوق المشتركة والقدر الواجب شرعا والممكن تطبيقه واقعًا عمليًا..

نلحظ في هذا النوع من المعالم والملامح ما يأتي:

1-   تحديد المرجعية التشريعية في الشريعة الإسلامية، "وَحْيًا من عند الله، وتطبيقًا له في سُنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، كما ورد في نص الوثيقة: " وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيئ فإن مرَدّه إلى الله -عزّ وجلّ- وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم-". انتهى .. وهذا مصداقه في كتاب الله قوله تعالى: " وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"، وقوله تعالى: "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا * وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"..

فيستحيل أن يقبل مسلمٌ أن تكون المرجعية التشريعية في دولة الإسلام -على أي صورة كانت- لغير الوحي المنزل، ليس كما هي طريقة الحكم "الثيوقراطي" الذي يعطي الحاكم الحق الإلهي في التشريع، بل هذا عند أهل الإسلام نوع من الشرك والكفر، قال الله تعالى: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" .. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعَدِيّ بن حاتم لما قال: "إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ"، قال: "ألم يحرموا الحلال ويحللوا الحرام فاتبعتموهم؟"، قال: "بلى"، قال: "فتلك عبادتهم".

والأحكامُ الشرعيةُ المستفادة من النصوص -كتابًا وسُنّةً وما تفرَّع عنهما- لازمةٌ للحاكم ومن دونه على السواء؛ فنظام الحكم الإسلامي ليس حُكمًا "ثيوقراطيًّا" ولا "ديموقراطيًّا" بالمعنى الغربي، فليس من الناس من له حق التشريع والتحليل والتحريم -فردًا أو جماعة أو هيئة-، وعليهم أن يجتهدوا -من خلال قواعد الاجتهاد الشرعية- في الوصول إلى حكم الله، ومن خالَفَه -من حاكم أو محكوم- فحكمه مردودٌ لمخالفته الدستور الأعلى والقانون المُلْزِم للجميع الذي يُستمد من النصوص.

وهذا لا يناقض ما قررناه سابقًا من جواز الصلح مع الكفار على ترك تحاكمهم -في شئونهم الخاصة، وفيما لا يَعُمُ فسادُه للمسلمين- لقاضيهم أو لحاكمهم؛ وذلك لأن هذا داخل ضمن ما شرعه الله، قال تعالى: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، والراجح كما ذكرنا من قبل أن هذه الآية ليست منسوخة، وأن ذلك في المُعَاهَدين مثل هذه العهود حسب المصلحة، فيُعمَل بها في أحوال يحتاج إليها كما سبق، وفي حدود ما ذكرنا مما لا يَعُمُ فساده.

2-   تحديد المرجعية التنفيذية في حاكم المسلمين، الذي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصفته حاكمًا لهذه الدولة إضافة إلى وصف النبوة والرسالة؛ فإن اليهود رغم أنهم لم يكونوا آمنوا بالرسول -صَلّى الله عليه وسلم- رسولًا من عند الله إلا أنهم التزموا بحكم هذه الوثيقة وبنودِها بقيادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للدولة، حيث وقع في نصها: "وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ وَإِلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ، وَإِنّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا"، وفيها أيضا: " وإنه لايُجيرُ مشركٌ مالًا لقُريشٍ ولا نفسًا، ولا يحول دونَه على مؤمنٍ"، وفيها أيضا: "وإن اليهود يُنفِقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وإن يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دِينٌ وللمسلمين دِينٌ ومواليهم وأنفسهم، إلا من ظَلَم وأَثِم فإنه لا يُوتِئ إلا نفسَه وأهلَ بيته، وإن ليهودِ بني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جُشم وبني الأوس وبني ثعلبة وجفنه وبني الشّطَمه مثل ما ليهود بني عوف، وإن بِطانة يهود كأنفُسِهم، وإنه لا يُخرَج منهم أحدٌ إلا بإذن محمد -صلى الله عليه وسلم-".

3-   إثبات حق الأمن والدفاع عن الأنفس والأعراض والأموال لجميع رعايا الدولة المسلمة المُلتزمين بهذه الوثيقة، وتعاونهم على ذلك مسئولية الدولة في إقامة ذلك، كما ورد في الوثيقة: "وإنه من تَبِعنا من يهود فإن له النصر والأُسوة غير مظلومين، ولا تَناصُرَ عليهم"، وفيها أيضا: "وإن بينهم النصر على من دَهَم يَثْرِب، وإذا دُعُوا إلى صُلحٍ يُصالِحونه ويلبَسونه فإنهم يُصالِحونه ويلبَسونه، وإنهم إذا دُعُوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين على كل أناس حِصّتَهم من جانِبِهم الذي قِبَلَهم، وإن يهود الأوسِ مواليهم وأنفسهم على مِثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البِرِّ الحَسَن من أهل هذه الصحيفة.. ولنا تكملة إن شاء الله.