"ولا تقتُلوا النفسَ التي حرّم الله إلا بالحَقّ" (3)

  • 260


تكلمنا في المقال السابق في باب "الكفر بعد الإيمان" الذي بَيَّنَه الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما يباح به سفك دم امرئ مسلم، وذكرنا أنه قد وقع في هذا الباب خللٌ كبير بسبب أمور خطيرة، انتشر الكلام فيها بغير علم؛ سبَّبَ ذلك الجرأة على التكفير، ثم على القتل في غير محلِّه، وكان الأمر الأول من هذه الأمور: باب الحكم بغير ما أنزل الله.

وأما الأمر الثاني -الذي نتكلم عنه في مقالنا هذا- فهو: باب الولاء والبراء، وهذه المسألة من أعظم أصول الدين، بيّنها كتابُ الله وسُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

قال -عزّ وجلّ-: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ".

وكلمة التوحيد تعني نفي الألوهية عن غير الله، وهذه قضية البراء. وإثبات الألوهية الحَقّة لله وحده لا شريك له هذا أصل الولاء.

وقال -عزّ وجلّ-: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ"، وقال -عزّ وجلّ-: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ".

ومع كون هذه المسألة من أعظم مسائل الدين فقد وقع في فهمها خللٌ كبيرٌ قديمٌ من جماعات الخوارج؛ استعملوا نصوص الكتاب والسُنَّة في التكفير في غير موضعه، ثم في القتل بغير حق، وقد تضاعف استعماله في هذا الزمان، مع انتشار الجهل وقِلَّة العلم، مع عدم ضبط كثير من المُصَنِّفين وأصحاب الرسائل العلمية أو الدعوية للحدود الفاصلة بين ما هو داخل في هذا الباب وما ليس منه.

وفي هذا نتكلم عن نقاط:

النقطة الأولى: أنه لابد من معرفة معاني الولاء والبراء تفصيلًا، والتمييز بينها وبين ما هو من أمور التعامل الجائز مع الكفار والمنافقين والظَّلَمَة والفَسَقة، كالبِرِّ والقسط،  قال الله -عزّ وجلّ-: "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"؛ فبَيَّن سبحانه أن ما أُمِروا به من البِرِّ والإقساط غيرَ ما نُهوا عنه من المحبة والموالاة.

وكذلك أمور البيع والشراء، والشركة والمُضَارَبَة، والمُزَارَعَة والمُسَاقَاة، وأمور المعاملات المادية والتجارية التي تعامل بها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فقد باع -صلى الله عليه وسلم- من المشركين واشترى، بل ومن أهل الحرب كما بَوَّبَ عليه البُخَاريّ -رحمه الله- في صحيحه، وشَارَك، وضَارَب، وأَذِنَ في ذلك بين المسلمين وبين الكافرين، وزَارَع وسَاقَى يهودَ خيبر -وهم على كفرهم-.

فضلًا عن أمور -أوسع بكثير- صار البعض يُكَفِّر بها، كالجلوس معهم، والقيام والوقوف والحديث، مع القطع بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد فعل ذلك!، وقد قال -عزّ وجلّ-: "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا"؛ فلم يحكم سبحانه وتعالى على من جَلَس مع الكافرين والمُنافقين بأنه مثلهم إلا إذا كانوا يخوضون في آيات الله، يستهزئون بها ويكفرون بها، وأجاز الجلوس معهم في حال عدم خوضهم في ذلك وإنما يخوضون في حديث آخر، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون يجلسون مع المشركين يدعونهم إلى الله، كما كانو يجلسون معهم في أمور البيع والشراء والمعاملات، وتوصيل الرسائل، وغير ذلك من أمور الدنيا التي لا تتضمن استهزاءً بآيات الله ولا كُفرًا بها.

ولو تأملت بعض "فيديوهات" الجماعات التكفيرية لوجدتهم يَستدِلّون على ما يقولون -من تكفير بعض الناس ووجوب قتلهم- بمجرد صورة جمعتهم مع قوم كُفّار، أو جلوسهم معهم في مواقف، أو حديث معهم، ثم هذا الخلل يترتب عليه من سفك الدماء بادّعاء أن هذه المسألة تدل على المُوالاة والعَمَالة والنِّفاق والكُفر، ما لايعلمه إلا الله.

ثم النقطة الثانية في هذا الباب هي: لزوم التفريق بين ما هو كُفرٌ وبين ما هو معصيةٌ في أمور الولاء والبراء، فليس كُلّ وَلاءٍ يُعتَبَر شِركًا، كما أن ليس كُلّ بَرَاءٍ ومُعادَاةٍ لمُسْلِمٍ أو جماعةٍ مُسْلِمَةٍ أو تَيّار إسلامي تكون بَرَاءَةً من الإسلام وكُفرًا به، وحدود الفرق بين الشرك وبين ما دون ذلك في غاية الأهمية في ضبط مسائل هذا الباب.

وقد قال سبحانه وتعالى في الجاسوس المسلم الذي تجسس على النبي -صلى الله عليه وسلم- لصالح المشركين: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ".

وقد دَلَّت قصة حاطب بن أبي بلتعة -التي نزلت بشأنها الآيات الكريمات من سورة الممتحنة- أن ما فَعَلَه حاطب من تجَسُّسٍ لصالح المشركين كان مُوالاةً مُحَرَّمَةً للكافرين، ومن الضلال عن سواء السبيل، ودَلَّت دلالة من أوضح الدلالات على أنه ما زال مُؤمِنًا، وأن عَمَله لم يحبط، ولو كان شِرْكًا لَحَبِطَ عَمَلُه -ولو كان شَهِدَ بَدْرًا- فقد قال الله -عزّ وجلّ- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"؛ فإذا كان من أَشْرَكَ قد حَبِطَ عَمَله ولو كان نَبِيَّا -وهو أمر مستحيل الوقوع، وإنَّما ضُرِب مِثالًا- فبالأولى ما كان دون الأنبياء، وحاطب قد ناداه الله -عزّ وجلّ- بـ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعُمَر -وقد استأذنه في قتله-: (دَعْه يا عُمَر؛ لَعَلَّ الله اطَّلَع على أهل بدر فقال: "اعملوا ما شئتم فقد غَفَرْتُ لكم").

وهذه المسألة للأسف يتناولها الكثيرون بطريقة دعوية أو بطريقة علمية يُهمِلُ فيها الفرق بين ما هو كُفْرٌ وبين ما هو من المُحَرَّمات، والبعض قد يُهمِلُه سهوًا والبعض قد يُهمِلُه عَمْدًا؛ فيقرأ كثير من الناشِئَة الصِّغار سُفَهاء الأحلام هذا الكلام بدون ضوابط، فينتشرون في الأرض يُكَفِّرون الناس بناءً على فهمهم السقيم، ويمكنك أن تُراجِع في ذلك كتابي "المنة" و "فضل الغني الحميد".

ونقطة أخرى نُحِبُّ أن نُبَيِّنها وهي: الانتباه إلى ضوابط تكفير المُعَيَّن لمن يقرأ نواقض الإسلام، التي أَلَّفَها بعضُ أهل العلم ثم صارت موضوعَ دراساتٍ عُليا في كثير من الجامعات، وكثيرٌ منها لم يُنَبِّه على الضوابط والشروط والموانع، والفرق بين النوع والعَيْن، وبين الأقسام المختلفة التي تدخل تحت هذا الباب وإن لم تدخل في حدود الرِّدَّة؛ فيتسبب ذلك في نسبة السوء إلى أهل العلم وهم منه براء.

ونستكمل في مقال قادم إن شاء الله.