تأملات إيمانية في الأدعية النبوية القرآنية

  • 393

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،,

فإن أدعية الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- التي قصّها الله -عَزَّ وجَلَّ- علينا في كتابه مع سيرتهم العظيمة؛ تَدُلُّنا في المقام الأول على الأحوال القلبية الإيمانية التي دَلَّتْ عليها هذه الأدعيةُ النبويةُ القرآنية، نبوية لأنها أدعية الأنبياء وقرآنية لأنها ذكرت في القرآن..

وهذه الأحوال هي أعظم أسباب إجابة الدعاء؛ ولذا على العبد أن يستحضر ما استطاع قلبه من هذه الأحوال الإيمانية عندما يدعو بها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ دُعَاءً عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ".

القرآن دَلنا على شدة الافتقار إلى الله -عَزَّ وجَلَّ- مع وجود الضرّ والألم، في دعاء أيوب -عليه السلام- بعد سنوات طويلة من الصبر والاحتمال؛ تضرع إلى الله -عَزَّ وجَلَّ-، قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، لم يزد على أن وصف حاله؛ لذا قلنا إن الأحوال الإيمانية القلبية هي أعظم أسباب إجابة الدعاء، وصف حاله وأثنى على ربه -عَزَّ وجَلَّ-، وكأنه استحيا أن يسأل الشفاء تفصيلًا، وإنما وصفَ ما به، وتوَسَّلَ إلى الله برحمته، {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

إن الله -عَزَّ وجَلَّ- يبتلي عبدَه بضرٍ ليسمع تضرعه، كما قال الله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا}، والله يحب أن يسمع هذا التضرع، يحب أن يرى من العبد الانكسار؛ لذا قد يُضيّقُ عليه الأسبابَ أو يمنعها بالكُلية؛ ليبقى الافتقار المحض إلى الله -عَزَّ وجَلَّ-: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْـزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ}، في لحظات تتغير الأمور والموازين؛ يصبحُ ذو الضر معافى، عنده من النفع والمال ما لم يكن يحيط به قبل ذلك، يصبحُ المبتلى معافى، يصبح الضعيف قويًا، كما أن القوي يصبح ضعيفًا، كما أن المغلوب يصبح منتصرًا، في لحظات تتغير الأمور، لا يملك الناس من أمر السماء شيئًا، والأمر ينزل من عند الله -عَزَّ وجَلَّ-: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}، {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ}، {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ}.

بعد أن لفظه أقاربه أو فقدهم، أعطاه الله -عَزَّ وجَلَّ- أهله ومثلهم معهم، ثم قال -عَزَّ وجَلَّ- مبينًا صفته -سبحانه وتعالى- التي يتعلق بها المؤمنون، قال: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا}.

ولو تأملتَ كل ما وصف الله من أحوال الأنبياء؛ لوجدت أمر الرحمة متكررًا، لتتعلق القلوب بالرحمة الإلهية، قال -عَزَّ وجَلَّ- عن موسى عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}، وقال -عَزَّ وجَلَّ- عن عيسى عليه السلام: {وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا}، وقال عن أيوب عليه السلام: {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ}، وقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}.

المقصود أن اللهَ -عَزَّ وجَلَّ- ذَكرَ رحمته في مواطن مختلفة بأنبيائه الكرام، وذكرهم فيها بوصف الصالحين، قال -عَزَّ وجَلَّ- عن إسحاق ويعقوب -عليهما السلام-: {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}، فالله -عَزَّ وجَلَّ- يهب من رحمته -سبحانه وتعالى-، يرحم عباده المؤمنين، ويَذْكُرُ أنبياءه بالوصف الأوسع؛ وهو أنهم "مِنَ الصَّالِحِينَ، من الصابرين"؛ ليقتدي المؤمنون وليأملوا وليرجوا ربهم -سبحانه وتعالى- في أن يشملهم برحمته، فإن القَدْرَ المشترك موجود عندهم، وإن كان في الأنبياء بما لا تصل إليه أحوال الأولياء، لكن القَدْرُ المشترك من العبادات القلبية موجود عند المؤمنين؛ لذلك تعلقهم برحمة الله -سبحانه وتعالى- عندما يدعون ربهم -عَزَّ وجَلَّ- هو الذي يؤَمِّلون عليه، قال: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ}.

وَصْفُ العبادة الذي يحصل به التذكر، فمن الذي يتذكر زوال الضر عن أيوب بعد السنين الطوال من البلاء؟، من الذي يتذكر ابتعاد الناس عنه، ثم ما وهبه الله -عَزَّ وجَلَّ- من رحمته أنه وهب له أهله ومثلهم معهم؟، العبادة هي التي تذكر أهل الإيمان بهذه الحقائق الإيمانية: {وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ}.

نسألُ اللهَ -عَزَّ وجَلَّ- أن يرحمنا في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا من المتذكرين العابدين.