تهذيب النفس

  • 246

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن مجموع العادات والمألوفات التي تشتهيها النفس قد تقطع سيرَ العبد إلى الله، فالنفس تشتهي الدعة والراحة، والمدح والثناء، والرياسة والتسلط، بل والبغي والظلم والتعدي، والجمع والمنع، والبخل والشح، فكم مِن موبقةٍ كانت مما بيْن جنبينا، وكم مِن عظيمةٍ سببها طواعية هواها، قال الله -تعالى-: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة:30).

قال قتادة -رحمه الله-: "زيَّنتْ لَهُ نَفسه".

وقال في التحرير والتنوير: "وشبهت داعية القتل في نفس قابيل بشخص يعينه ويذلل له القتل المتعاصي، فكان (طوعت) استعارة  تمثيلية، والمعنى الحاصل مِن هذا التمثيل أن نفس قابيل سولت له قتل أخيه بعد ممانعة".

فهذه النفس لا بد وأن تلجم بلجام التقوى، وتتزين بزينة الإحسان، فإن لم يقم العبد على محاسبتها فلا يدري أين تقف به داعيتها؟! ولا أين تستقر غائلتها؟! فدعاؤها للهوى لا ينقطع، ونداؤها للشهوات لا ينقضي!

فمتى تقبل بها على ربها وأنتَ تجيبها في كل ندائها ودعائها؟!

فمَن سلـَّم نفسه لها سارتْ به في دروب الشهوات تارة، والشبهات والانحرافات تارة أخرى، وما خبر "السامري" منا ببعيدٍ، وقد قص القرآن خبره علينا، قال الله -تعالى-: (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)(طه:96).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "حسنته وأعجبها إذ ذاك".

فهل كل ما يعجبها يصير دينًا وشرعًا؟! أم كل ما تراها تتعالى به فوق الخليقة أنها أبصرت ما لا تبصره غيرها، وعلمتْ ما لم تعلمه غيرها، وأدركت مالم تدركه غيرها؟!

أُفٍ لهذه النفس المعجبة مع كثرة زللها، والمتكبرة مع وضوح عجزها، والمتعالمة مع قطعية جهلها؛ فهذه النفس قعودة، أكولة كسولة، متعجرفة متمردة، لا يقومها إلا قربها مِن سيدها -سبحانه-، ولا يهذبها إلا منهاج نبيه -صلى الله عليه وسلم-!

- إن تهذيب النفس وإصلاحها آكد الواجبات، فهي شرط الفلاح، قال الله -تعالى-: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:7-10).

قال في محاسن التأويل: "( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا): أي زكى نفسه وطهرها مِن رجس النقائص والآثام، أو نمّاها بالعلم والعمل والوصول إلى الكمال، وبلوغ الفطرة الأولى. (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها): أي أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله -تعالى-، هذا ما قاله ابن جرير. وقال غيره: أي نقص تزكيتها وأخفى استعدادها وفطرتها التي خُلقت عليها بالجهالة والفسوق".

فالنفس لا بد أن تجاهدها في اضطرابها وتحولها ورغباتها، فتنوعها يدل على خطورة الختام، فعلى أي منها يكون الختام؟! هل يختم بالأمارة بالسوء التي تحث صاحبها على الشر ولا تكاد تأمره بخير؛ فلبئس الختام! أم باللوامة: التي تلوم على المعصية، لكنها لم تستقم بعد على أمر ربها؟!

أما إن خُتم له بالخيرة المطمئنة؛ فلنعم الختام، والقرب والأمان، وربه يناديه ليرضيه ويدنيه، قال الكريم -عز وجل-: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر:27-30)، استقمتِ فتنعمي، وأطعتِ فاقتربي؛ فلنعم الختام الذي يعقبه القرب والنعيم المقيم.

روى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)(متفق عليه).

فالصوم عبادة قلَّ أن تجد فيها هذا النفع المتعدي؛ فهي عبادة قلبية بدنية تهذيبية، عبادة ملأتْ وقتَ العبد كله، مِن فجره لغروب يومه؛ يعظم إخلاصه واحتسابه ورجاؤه، فما يحجبه عن الماء مع شدة ظمئه إلا الله، ولا يمنعه مِن الوقوع على أهله إلا رضاه، فلا يزال في كسر رغباتِ نفسه لله، حتى تصير نفسه مطمئنة بطاعة الله، إليها تدعو، وبها تنشغل، وعلى فواتها تحزن!

فصيام العبد ليس حرمانًا له، بل تهذيبًا واستقامة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) (رواه البخاري)، فهذه غنيمة المتنسكين، وقنطرة الأوابين، وعبادة الراغبين.

وتأمل كيف دلَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا أمامة -رضي الله عنه- عليها: عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: أَنْشَأَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَزْوَةً فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ لِي بِالشَّهَادَةِ. فَقَالَ: (اللهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ). قَالَ: فَسَلِمْنَا وَغَنِمْنَا. قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَزْوًا ثَانِيًا، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ لِي بِالشَّهَادَةِ. فَقَالَ: (اللهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ). قَالَ: فَسَلَّمْنَا وَغَنِمْنَا. قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأَ غَزْوًا ثَالِثًا، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَتَيْتُكَ مَرَّتَيْنِ قَبْلَ مَرَّتِي هَذِهِ فَسَأَلْتُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللهَ لِي بِالشَّهَادَةِ، فَدَعَوْتَ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَنَا وَيُغَنِّمَنَا فَسَلِمْنَا وَغَنِمْنَا. يَا رَسُولَ اللهِ، فَادْعُ اللهَ لِي بِالشَّهَادَةِ. فَقَالَ: (اللهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ). قَالَ: فَسَلِمْنَا وَغَنِمْنَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مُرْنِي بِعَمَلٍ. قَالَ: (عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ). قَالَ: فَمَا رُئِيَ أَبُو أُمَامَةَ وَلَا امْرَأَتُهُ وَلَا خَادِمُهُ إِلَّا صُيَّامًا. قَالَ: فَكَانَ إِذَا رُئِيَ فِي دَارِهِمْ دُخَانٌ بِالنَّهَارِ قِيلَ اعْتَرَاهُمْ ضَيْفٌ نَزَلَ بِهِمْ نَازِلٌ. قَالَ: فَلَبِثْتٌ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَرْتَنَا بِالصِّيَامِ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ بَارَكَ اللهُ لَنَا فِيهِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَمُرْنِي بِعَمَلٍ آخَرَ قَالَ: (اعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَسْجُدَ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَ اللهُ لَكَ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

فأمرُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له قد أثمر بركة بشهادة أبي أمامة -رضي الله عنه-: "فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ بَارَكَ اللهُ لَنَا فِيهِ يَا رَسُولَ اللهِ"، فيا لها مِن بشرى وسرور أن يشعر العبد ببركة عمله، وقرارة عينه به؛ يذوق لذته وحلاوته وبركته، في سريرته وعلانيته!

فالصائم يجني مِن الثمار على قلبه وبدنه ونفسه ما لا يجنيه مِن مثله مِن العمل.  

قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "إذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُك وَبَصَرُك وَلِسَانُك عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَآثِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْك وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلاَ تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صِيَامِكَ سَوَاءً" (المصنف لابن أبي شيبة)، فلا ينجرف إلى حال الغافلين والجاهلين، فلا هو بالمسيء، ولا الصخاب، ولا المقابل الإساءة بالإساءة، بل يحتسب صبره وأجره، ويلجم نفسه عن مرادها، فلا يزال على حاله حتى تستقيم له نفسه.

والله أسأل أن يتقبل صيامنا وصالح عملنا، وأن يطهِّر قلوبنا، ويهذب ويزكى نفوسنا.

والحمد لله رب العالمين.