سلامة المنهج وصحة الفكر (2)

  • 191

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

تحدثنا في اللقاء الماضي عن أهمية سلامة المنهج، وذكرنا أن الطريق إلى الله -تعالى- هو طريق واحد؛ ليس فيه انحراف أو اعوجاج، بخلاف غيره مِن الطرق المختلفة.

ثم نذكر أن سلامة المنهج وصحة الفكر تنبثق مِن عقيدة صحيحة، فلا بد مِن استقرار صحة المعتقد أولاً، والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري عن عمر -رضي الله عنه- أن رجلاً مِن الصحابة كان يُسمَّى عبد الله، ويُلقَّب حمارًا، وكان يشرب الخمر ويُؤتى به إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فيأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بإقامة الحدّ عليه، يقول عمر -رضي الله عنه-: "فَمِنَّا الضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا الضَّارِبُ بِثَوْبِهِ".

وفي مرة لعنه رجل مِن الصحابة؛ لكثرة شربه للخمر وإقامة الحد عليه، فقال: "اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟!"، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).  

فهذا الرجل يعاني مِن خللٍ عارض، لكنه لا يمس المنهج، ولا يصيب المعتقد، وإنما هو مِن غلبة النزوة على النفس والضعف أمام الشهوة، فهذا الرجل وإن كان قد جُلد في الخمر فعنده أصل المحبة، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، فنهى عن لعنه بعينه، وشهد له بحب الله ورسوله، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد لعن شارب الخمر عمومًا، فقال: (لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)؛ فهذا على العموم، وفرق بيْن اللعن للعموم ولعن الخصوص؛ ففي العموم لا يوجد مانع فلكَ أن تقول: لعن الله اليهود والنصارى، ولعن الله السارق، كما في الحديث: (لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) (متفق عليه)، ولعن الله شارب الخمر، لكن فلان بن فلان السارق، وفلان بن فلان شارب الخمر لا يُلعن بعينه على الصحيح؛ لأن الشخص المعين قد يتوب، وقد يكون لم يعلم الحكم، وقد يعفو الله عنه.

وفي المقابل على الشق الآخر: ترى الخوارج أصحاب أول بدعة اعتقادية قد انحرفوا في المنهج مع كثرة عبادتهم، فهم قوم (يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ) (متفق عليه)، ولكن عندهم خلل في المنهج؛ فدمَّر سلامة المنهج، فهم يكفـِّرون صاحب الكبيرة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)، فهذا الإغراق في العبادة لم يغنِ شيئًا (يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ) ومع ذلك: (يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)، فالسهم يمرق منها لا يحمل شيئًا.

وقال أيضًا النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْخَوَارِجُ كِلَابُ النَّارِ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

وأما معنى هذا الحديث: فيحتمل أن يكون على ظاهره، وأن الخوارج يكونون في النار على صورة الكلاب، ويحتمل أنهم يكونون في النار على بعض صفات الكلاب، أو وجوه الشبه بهم. وقيل: أي أنهم يتعاوون فيها عواء الكلاب، أو أنهم أخس أهلها وأحقرهم، كما أن الكلاب أخس الحيوانات وأحقرها.

والحكمة مِن عقابهم بهذا العقاب: أنهم كانوا في الدنيا كلابًا على المسلمين، فيكفرونهم ويعتدون عليهم ويقتلونهم؛ فعوقبوا مِن جنس أعمالهم، فصاروا كلابًا في الآخرة.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهم: (كِلَابُ النَّارِ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ) (رواه أحمد والترمذي، وقال الألباني: حسن صحيح)، وقال أيضًا: (لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ) (متفق عليه).

ومِن هنا يتضح: أن الانحراف عن العقيدة الصحيحة مهلكة وضياع؛ لأن العقيدة الصحيحة هي الدافع القوي إلى العمل الصالح، والفردُ بلا عقيدة صحيحة يكون فريسة للوقوع في الانحرافات الفكرية، ومِن أهم أساب انحراف الفكر: الجهل، والتعصب، والتقليد الأعمى، والغلو، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)(رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

فاللهم ثبت قلوبنا على دينك حتى نلقاك وأنتَ راضٍ عنا.