مجاهدة النفس بكثرة السجود (1)

  • 294


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن مِن أفضل الأعمال التي يتقرب بها المسلم إلى ربه -عز وجل-: أداء الصلوات المفروضة والمندوبة في نهاره وليله، فـ(الصّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ, فَلْيَسْتَكْثِرَ(رواه الطبراني، وحسنه الألباني)، خاصة إذا أداها على الوجه الأكمل الذي ينبغي عليه أن يؤديها بها، مِن إتمام أركانها وواجباتها، وإكمال سننها، والخشوع فيها، مع التدبر لما يقرأ فيها مِن القرآن، وحضور القلب مع ما يقوله فيها مِن الذكر والدعاء.

ويزيد الأجر والثواب بالمحافظة على الجُمَع والجماعات في الصلوات المفروضة، والمحافظة على قيام الليل مِن الصلوات المندوبة، ولعل شهر رمضان  -وبحق- مِن أفضل أوقات المسلم في المداومة على هذه الصلوات مِن غيره، كما هو معلوم ومشاهد مِن حال الصائمين العبَّاد فيه؛ فلا يخلو ليلهم ونهارهم مِن ارتياد المساجد للصلاة؛ إذ شرعتْ فيه صلاة التراويح، أي قيام الليل في جماعةٍ مِن دون العام، وبقي قيام الليل في غير رمضان في البيوت فرادى، فكانت المساجد فيه -بفضل الله تعالى- عامرة بصلوات الجماعة المفروضة والمندوبة ليل نهار؛ ولعل لهذه الميزة -مع فضل شهر رمضان- كان أجر قيام الليل في رمضان إيمانًا واحتسابًا مغفرة الذنوب، كأجر صيام النهار في رمضان إيمانًا واحتسابًا مغفرة للذنوب، وكان شهود التراويح مع الإمام حتى ينصرف ولو مِن أول الليل هو قيام لليل في ميزان العبد عند الله -تعالى-.

ولا شك أن هذه الحالة مِن المداومة على الصلوات ليلاً ونهارًا مِن العبد هي صورة مِن المجاهدة للنفس كبيرة، ودرجة مِن العبودية الظاهرة منه لله عظيمة، قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي(طه:14)، وقال الله -عز وجل-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(البقرة:45-46).

وقد جاء في السُّنة النبوية أن هذه المجاهدة والمداومة عليها في رمضان وغيره ترفع العبد إلى أعلى عليين حتى تقربه مِن مرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة؛ روى الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة باب (فضل السجود والحث عليه) عن ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله عنه- قال: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: (سَلْ) فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ) قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ).

وربيعة بن كعب بن مالك بن يعمر الأسلمي، وكنيته أبو فراس، هو خادم للنبي -صلى الله عليه وسلم-، قال عنه ابن عبد البر -رحمه الله- في كتابه (الاستيعاب في أسماء الأصحاب): "معدود في أهل المدينة، وكان مِن أهل الصفة، وكان يلزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر والحضر، وصحبه قديمًا، وعمَّر بعده. مات بعد الحرَّة سنة ثلاث وستين" ( ج 1، ط مكتبة مصر، ص 244).

وقال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: "فيه الحث على تكثير السجود والترغيب فيه، والمراد: السجود في الصلاة".

وقال أيضًا: "لأن السجود غاية التواضع والعبودية لله -تعالى-، وفيه تمكين أعز أعضاء الإنسان وأعلاها -وهو وجهه- في التراب الذي يُداس ويمتهن. والله أعلم".