• الرئيسية
  • المقالات
  • (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (11) بعض أحكام عقد الأمان (2)

(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (11) بعض أحكام عقد الأمان (2)

  • 259


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

جواز عقد الأمان للرسول والمستأمِن:

ذكرنا في المقال السابق ما قاله صاحب "الشرح الكبير": "يجوز عقد الأمان للرسول والمستأمِن؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يؤمِّن رُسُلَ المشركين، ولما جاءه رسولا مُسَيلمة، قال: (لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأننا لو قتلنا رُسُلَهم لقَتَلوا رُسُلَنا، فتفوت مصلحة المُراسَلَة.

ويجوز عقد الأمان لكُلِّ واحدٍ منهما مُطلَقًا ومُقَيَّدًا بمُدَّة -يقصد الأمان للرسول والمستأمن-، سواء كانت -يعني المدة- طويلة أو قصيرة، بخلاف الهدنة؛ فإنها لا تجوز إلا مقيدة -وقد سبق بيان صحة العهد المطلق بأدلته في مقالاتٍ سابقة-؛ لأن في جوازها مُطلَقَةً تركًا للجهاد، وهذا بخلافه" (انتهى).

حكم الجِزْيَةِ زَمَن الهُدْنَة:

قال في "الشرح الكبير": "ويجوز أن يقيموا مُدَّةَ الهُدْنَة بغير جِزْيَةٍ، ذكره القاضي، قال أبو بكر: هذا ظاهر كلام أحمد. وقال أبو الخطاب: عندي أنه لا يجوز أن يقيم سَنَةً بغير جِزْيَةٍ، وهو قول الأوزاعي والشافعي؛ لقول الله -تعالى-: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29).

ووَجْه الأول: أنه كافرٌ أبيح له الإقامة في دار الإسلام مِن غير التزام جِزْيَةٍ فلم يلزمه جزية كالنساء والصبيان، ولأن الرسول لو كان ممن لا يجوز أخذ الجِزْيَةِ منه لاستوى في حقه السَّنَةَ وما دونها، في أن الجِزْيَةَ لا تؤخذ منه في المُدَّتَيْن؛ فإذا جازت له الإقامة في إحداهما جازت في الأخرى قياسًا لها عليها، وقوله -تعالى-: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) أي: يلتزمونها، ولم يُرِد حقيقة الإعطاء، وهذا مخصوصٌ منها بالاتفاق، فإنه تجوز له الإقامة مِن غير التزام لها، ولأن الآية تخصصتْ بما دون الحَوْلِ فنقيس على المحلِّ المخصوص" (انتهى).

حكم مَن ادَّعَى أنه رسولٌ أو تاجِرٌ:

قال في المُقنِع: "وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الإِسْلَام بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَادَّعَى أَنَّهُ رَسُولٌ، أَوْ تَاجِرٌ وَمَعَهُ مَتَاعٌ يَبِيعُهُ، قُبِلَ مِنْهُ، وَإنْ كَانَ جَاسُوسًا، خُيِّرَ الإِمَامُ فِيهِ كَالْأَسِيرِ".

قال في "الشرح الكبير": "إذا دَخَل حَرْبِيٌّ دار الإسلام بغير أمانٍ، وادَّعَى أنه رسولٌ قُبِلَ منه، ولم يَجُز التَّعَرُّض له؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لِرَسُولَي مسيلمة: (لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا)، ولأن العادة جارية بذلك.

وإن ادَّعَى أنه تاجِرٌ، وقد جَرَتِ العَادَةُ بدخول تُجَّارِهم إلينا؛ لم يُعْرَضْ له إذا كان معه ما يبيعه؛ لأنهم دخلوا يعتقدون الأمان، أَشْبَهَ ما لو دَخَلوا بإشارةِ مُسْلِمٍ.

قال أحمد: إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم فيه تُجَّارٌ مشركون مِن أرض العَدُوِّ، ويريدون بلادَ الإسلام لم يَعْرِضوا لهم ولم يُقَاتِلُوهم، وكُلُّ مَن دَخَل بلادَ المسلمين مِن أرض الحرب بتجارةٍ بُويِعَ ولم يُسأَل عن شيءٍ، وإن لم يكن معه تِجَارَةٌ فقال: جئتُ مُستأمِنًا لم يُقْبَل منه، وكان الإمامُ فيه مُخَيَّرًا، ونحو هذا قول الأوزاعي والشافعي، وكذلك إن كان جاسوسًا؛ لأنه حَرْبِيٌّ أُخِذَ بغير أمانٍ، فأَشْبَهَ المأخوذ في حال الحرب" (انتهى).

أمان المسلم للكافرين في بلادهم:

قال في "الشرح الكبير": "ومن دَخَل دار الحرب رسولًا أو تاجرًا بأَمَانِهِم فخِيَانَتُهم مُحَرَّمَةٌ عليه؛ لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطًا بترك خِيَانَتِهم وأَمْنِه إياهُم مِن نَفْسِه، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في اللفظ فهو معلومٌ في المعنى، وكذلك مَن جاءنا منهم بأمانٍ فخَانَنَا فهو ناقضٌ لأَمَانِه، ولأن خيانَتَهم غَدْرٌ، ولا يصلح في ديننا الغَدْرُ.

فإن خانَهُم، أو سَرَقَ منهم، أو اقترض شيئًا؛ وَجَبَ عليه رَدُّ ما أَخَذَ إلى أربابِه، فان جاء أربابُه إلى دار الإسلام -بأمانٍ أو إيمان- رَدَّه إليهم، وإلا بَعَث به إليهم؛ لأنه أَخَذَه على وجهٍ يحرم عليه أخذه، فلَزِمَه رَدُّه، كما لو أخذه مِن مال مسلم" (انتهى).

أقول: وهذه مسألة غاية في الأهمية في دخول بلاد الكفر، وذلك أن من دَخَل بتأشيرةٍ معتمدًا على وجود عهودٍ بيْن دَولتين -مع أن هذا ليس في حقه دخول بلاد كفر حَرْبِيَّة، بل بلاد كفر بينها وبين المسلمين أمان- هذا يُعَدُّ أَمَانًا بتأشيرة الدخول التي دخل بها، ولو كانت في حالة حرب مع بعض بلاد الإسلام، لكنها أعطَتْهُ الإذن بالدخول؛ فهذا لو لم يكن يوقع على تفصيلات معلومة في طلب التأشيرة -كأن لا يعتدي على الناس في بلادهم، وأنه لا يعمل العمليات الإرهابية- لكان يَلْزَمُه بدون التوقيع على ذلك الحفاظُ على دمائهم وأعراضهم؛ لأن فِعْلَ ذلك -وقد دَخَل بأمانٍ منهم- غَدْرٌ لا يجوز.

وهذا يوضح حكم عمليات الاغتيالات والتفجيرات، ونحوها مِن العمليات التي تقع في بلاد الكفار التي يدخلها البعض بتأشيرات ويعطيهم الأمان عند دخوله، بل يدخل بطَلَبِهِم، فيَلْزَمُه أن يُؤَمِّنهم؛ فكل ما يحدث مِن ذلك ممن دخل بلادهم -دخولًا بتأشيرة- فهو خائن للأمانِ وغادِرٌ بهم، ولا يجوز في ديننا الغدر.

حكم وديعة المستأمن العائد لدار الحرب ومالِه:

قال في المُقنِع: "وإذا أودع المستأمن مالَه مُسْلِمًا أو أَقْرَضَه إياه ثم عاد إلى دار الحرب بقي الأمانُ في مالِه، يُبْعَثُ إليه إن طَلَبَهُ، وإن مات فهو لِوَارِثِه، فإن لم يكن له وارثٌ فهو فَيْءٌ".

قال في "الشرح الكبير": "وجملة ذلك أن مَن دخل مِن أهل الحرب إلى دار الإسلام بأمانٍ فأودَع مالَه مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا -أو أقرضهما إياه- ثم عاد إلى دار الحرب لحاجةٍ يقضيها أو رسولًا ثم يعود إلى دار الإسلام فهو على أمانه في نفسه ومالِه، لأنه لم يخرج بذلك عن نية الإقامة بدار الإسلام، فأشبه الذِمِّيَّ إذا دخل لذلك، وإن دَخَل مُستَوطِنًا أو مُحارِبًا بطل الأمان في نفسه وبقي في مالِه، لأنه بدخوله دار الإسلام بأمانٍ ثبت الأمان لمالِه الذي معه تبعًا، فإذا بطل في نفسه بدخوله دار الحرب بقي في ماله لاختصاص المبطل في نفسه، فيختص البطلان به.

فإن قيل: إنما يثبت الأمان لمالِه تبعًا، فإذا بطل في المتبوع بطل في التبع.

قلنا: بل يثبت له الأمان لمعنى وُجِدَ فيه، وهو إدخاله معه، وهذا يقتضي ثبوت الأمان له، وإن لم يثبت في نفسه، بدليل ما لو بعثه مع مُضَارِبٍ له أو وكيلٍ فإنه يثبت له الأمان وإن لم يثبت في نفسه، ولم يوجد فيه ههنا ما يقتضي نقض الأمان فيه، فبقي على ما كان عليه، فإن أخذه معه إلى دار الحرب انتقض الأمان فيه كما انتقض في نفسه لوجود المبطل فيهما.

إذا ثبت هذا، فإذا طَلَبَه صاحبُه بُعِثَ إليه، وإن تَصَرَّف فيه -ببيعٍ أو هِبَةٍ أو نحوِهِما- صَحَّ تَصَرُّفُه؛ لأنه ملكه. وإن مات في دار الحرب انتقل المال إلى وارِثِه، ولم يبطل الأمان فيه. وقال أبو حنيفة: يبطل، وهو قول الشافعي؛ لأنه قد صار لوارِثه ولم يعقد فيه أمانًا فوجب أن يبطل فيه كسائر أمواله. ولنا أن الأمان حقٌ واجِبٌ لازِمٌ متعلِّقٌ بالمال؛ فإذا انتقل إلى الوارث انتقل بحَقِّه كسائر الحقوق مِن الرهن والضمين والشفعة، وهذا اختيار المُزَنِيّ، ولأنه مالٌ له أمانٌ فيُنْقَل إلى وارِثِه مع بقاء الأمان فيه، كالمال الذي مع مُضارِبِه. وإن لم يكن له وارثٌ صَارَ فَيْئًا لبيتِ المالِ، كمالِ الذِمِّيّ إذا مات وليس له وارث" (انتهى).

وقال: "وإن أخذ المسلم مِن الحربي في دار الحرب مالًا -مُضَارَبَةً أو وَدِيعَةً- ودَخَلَ به دار الإسلام فهو في أمانٍ، حُكْمُه حكم ما ذكرنا، وإن أَخَذَه ببيعٍ في الذمَّة أو قرضٍ، فالثمن في ذِمَّتِه، عليه أداؤه إليه، وإن اقترض حربي مِن حربي مالًا ثم دخل إلينا فأسلم، فعليه رد البَدَل؛ لأنه أَخَذَه على سبيل المُعَاوَضة، فأَشْبَهَ ما لو تزوج حَربِيَّةً ثم أَسْلَم لَزِمَه مَهرها" (انتهى).