قاعدة في الصبر مِن درر شيخ الإسلام (2)

  • 184

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:

"ويُعِينُ العبدَ على هذا الصبر عدةُ أشياءَ:

العاشر: أن يَشهدَ معيَّهَ الله معه، ومحبَّهَ الله له إذا صَبَر، ومَن كان الله معه دَفَع عنه أنواعَ الأذى والمضرات ما لا يَدفعُه عنه أحدٌ مِن خلقِه، قال الله -تعالى-: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:46)، وقال -تعالى-: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146).

الحادي عشر: أن يَشهد أن الصبرَ نِصفُ الإيمان، فلا يبذل مِن إيمانه جزءًا في نُصرةِ نفسِه، فإذا صَبَر فقد أَحرزَ إيمانَه، وصانَه مِن النقص.

الثاني عشر: أن يشهد أن صبرَه حكمٌ منه على نفسِه، وقَهرٌ لها وغَلَبةٌ لها، فمتَى كانتِ النفسُ مقهورة معَه مغلوبةً، لم تطمعْ في استرقاقِه وأَسْرِه وإلقائِه في المهالك، ومتى كان مطيعًا لها سامعًا منها مقهورًا معها، لم تزَلْ به حتى تُهلِكَه، أو تتداركَه رحمةٌ مِن ربه, فلو لم يكن في الصبر إلاّ قَهرُه لنفسِه ولشيطانِه؛ فحينئذٍ يَظهرُ سلطانُ القلبِ، وتَثبُتُ جنودُه، ويَفرَحُ ويَقوَى، ويَطْرُد العدو عنه.

الثالث عشر: أن يعلم أنه إن صبرَ فاللهُ ناصرُه ولا بد، فاللهُ وكيلُ مَن صَبر، وأحالَ ظالمَه على الله، ومَن انتصَر لنفسِه وكلَهُ اللهُ إلى نفسِه، فكان هو الناصر لها, فأينَ مَن ناصرُه اللهُ -خيرُ الناصرين- إلى مَن ناصِرُه نفسُه أعجز الناصرين وأضعفُه؟!

الرابع عشر: أن صَبْرَه على مَن آذاه واحتمالَه له يُوجِبُ رجوعَ خَصْمِه عن ظُلمِه، ونَدامتَه واعتذارَه، ولومَ الناسِ له، فيعودُ بعد إيذائِه له مستحييًا منه نادمًا على ما فعلَه، بل يَصيرُ مواليًا له, قال الله -تعالى-: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:34-35).

الخامس عشر: ربما كان انتقامُه ومقابلتُه سببًا لزيادة شرِّ خصمِه، وقوّةِ نفسِه، وفكرته في أنواع الأذى التي يُوصِلُها إليه، فإذا صبر وعفا أَمِنَ مِن هذا الضرر، والعاقلُ لا يختارُ أعظمَ الضررين بدَفْعِ أدناهما, وكم قد جلبَ الانتقامُ والمقابلةُ مِن شرٍّ عَجَزَ صاحبُه عن دفعِه، وكم قد ذهبتْ نفوس ورِئاسَات وأموال لَو عفا المظلومُ لبقيتْ عليه.

السادس عشر: أنّ مَن اعتادَ الانتقام ولم يَصبِرْ لا بد أن يقعَ في الظلم، فإنّ النفس لا تَقتصِرُ على قدرِ العَدْل الواجب لها، لا علمًا ولا إرادة، وربما عجزت عن الاقتصار على قدرِ الحق، فإنّ الغضبَ يَخرُجُ بصاحبه إلى حدٍّ لا يَعقِلُ ما يقول ويفعل، فبينما هو مظلوم يَنتظِرُ النَّصْرَ وَالعِز، إذ انقلبَ ظالمًا يَنتظِرُ المقتَ والعقوبةَ.

السابع عشر: أن هذه المَظْلَمةَ التي ظُلمها هي سبب إمّا لتكفيرِ سيئتِه، أو رَفْعِ درجتِه، فإذا انتقمَ ولم يَصبِرْ لم تكنْ مُكفِّرةً لسيئتِه ولا رافعةً لدرجتِه.

الثامن عشر: أنّ عفوَه وصبرَه مِن أكبر الجُنْدِ له على خَصْمِه، فإنّ من صَبَر وعفا كان صبرُه وعفوه مُوجِبًا لذل عدوه، وخوفِه وخَشيتِه منه ومِن الناس، فإنّ الناس لا يسكتون عن خصمِه، وإن سَكتَ هو؛ فإذا انتقمَ زالَ ذلك كلُّه.

التاسع عشر: أنه إذا عفا عن خصمِه استشعرتْ نفسُ خصمِه أنه فوقَه، وأنه قد رَبِحَ عليه، فلا يزال يرى نفسَه دونَه، وكفى بهذا فضلاً وشرفًا للعفو.

العشرون: أنه إذا عفا وصَفَحَ كانت هذه حسنةً، فتُولِّد له حسنةً أخرى، وتلك الأخرى تُولِّدُ له أخرى، ولهم جَرًّا، فلا تزال حسناتُه في مزيدٍ، فإن مِن ثواب الحسنةِ الحسنة، وربما كان هذا سببًا لنجاتِه وسعادتِه الأبدية، فإذَا انتقم وانتصرَ زال ذلك" (جامع المسائل بتصرف).