أقراص مهدئة للضمير! (1)

  • 165

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فللنفس البشرية قدرة عجيبة على خداع الذات؛ فهي تستخدم الكثير مِن الحيل النفسية لإراحة الضمير عند ارتكابها لخطأٍ معينٍ، ولتخفيف الضغط النفسي الداخلي عليها جراء وضعٍ غير مرغوب تجد نفسها محصورة فيه، فكثيرٌ مِن الناس، بل كلنا في الحقيقة مارسنا في مرحلةٍ معينةٍ مِن أعمارنا -وربما ما زلنا- أنواعًا شتى مِن هذه الحيل، كالتبرير لخطأٍ كبير -أو صغير- اقترفناه.

ومِن أجل أن نتخلص مِن لوم الآخرين "وقبْل ذلك مِن أجل أن نتخلص مِن وخز ضمائرنا" نقنع أنفسنا أنه كان لنا عذر في ارتكاب كذا وكذا مِن الأخطاء، بل ربما لا ننعته أنه خطأ أساسًا! ولا نقتنع بكوننا أخطأنا، وبالتبرير الذي نعلم في أعماق أنفسنا أنه غير حقيقي أو واهٍ أو غير كافِ، نستمر في فعل ما لا ينبغي فعله أو ترك ما يجب علينا فعله.

هل قابلتَ يوما أبًا يقصِّر في تربيته أولاده أخلاقيًّا وسلوكيًّا، ولا يعايشهم ولا يجالسهم ولا يلاعبهم، ولا يعطيهم مِن نفسه نصيبًا إلا ما ندر، وهو يرمي حمل تربية أبنائه كلهم على أمهم المسكينة وحدها ثم إذا عاتبه أحدٌ يقول إنني مشغول بالمعاش وتوفير حاجياتهم مِن المأكل والمشرب، والملبس، والتعليم؛ فيعطي لنفسه تبريرات واهية أنه يقوم بالواجب عليه إذ يأتي لهم بكذا وكذا مِن رفاهيات الحياة؟!

هو يخدع نفسه ويقنعها أن ذلك كافٍ، ولا ينتبه للخلل الذي يتسرب إلى أولاده يومًا بعد يومٍ مِن تأثيرات البيئة المحيطة، ولا ينتبه إلى أيام عمره التي تنسل مِن بيْن يديه، ولا ينتبه إلى أنه ما عاد جزءًا أصيلًا مِن حياتهم، وبالطبع لا ينتبه إلى الفجوة الشعورية والنفسية التي تحدث بينه وبيْن زوجته التي ترملت في حياته!

راقب هذا الشخص بعد أن يكبر ويجلس في بيته في آخر عمره أو يعود مِن سفره الطويل، راقبه وقد شب الطفل وكبرت الفتاة وابيض شعر المرأة ليتفاجأ أنه أصبح غريبًا في بيته! يقول لنفسه: أهذا ابني وهذه ابنتي؟! ماذا حلَّ بهم؟! لماذا ينكرونني وأنكرهم؟! كيف كبروا وأصبحتْ طباعهم غريبة عني هكذا؟ كيف صار بنا الحال أن نتعامل سويًّا بصورةٍ باهتةٍ كما يتعامل الجيران في زماننا مع بعضهم "مِن بعيد لبعيدَ"؟! ما لهم يعاملونني هكذا... وأنا الذي أنفقت شبابي كله، وتغربت وسهرت الليالي لكي أحقق لهم ما هم فيه الآن، ولكي أؤمن لهم مستقبلهم؟!

أما هم فيقولون في قرارة أنفسهم: علمناك جالبًا للمال، ولم نعرفك أبًا مربيًّا، ولا حتى فردًا مِن أفراد الأسرة، لم نعرف سوى أمنا توجهنا وتلاعبنا وتشجعنا وتعاقبنا وتدللنا، هي فقط مَن كانت تتابع دروسنا وتحل مشاكلنا أطفالًا ومراهقين، وما زالت بجانبنا شبابًا، معها فقط تجاذبنا الطرائف والمواقف، وحكينا الحكايات، ومعها عشنا دموع الفرح كثيرًا، ودموع الحزن أحيانًا، والأبوة التي تبحث عنها اليوم علاقة متينة تُبنى مع الأيام الطوال، وليستْ مجرد نسبة إلى اسمك في بطاقة الهوية... دعك منا أيها الرجل.

هكذا تريح الحيل النفسية ضمائرنا في أول الأمر، وهكذا تأكلنا الحسرة في آخره!

وللحديث بقية -إن شاء الله-.