مجاهدة النفس بكثرة السجود (9)

  • 208

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

- الجمع بيْن الخوف والرجاء مع الخشوع:

قال الله -تعالى-: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) (الزمر:9)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا . وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) (الفرقان:64-65)، وقال: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ . تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (السجدة:15-16)، وعن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- أنه كان إذا سجد جاءت الطير فوقعتْ ووقفت عليه كأنه حائط أو كأنه صخرة ثابتة لا تتحرك! 

- ويجوز البكاء في السجود -وفي عامة الصلاة- إن أمن الرياء: قال الله -تعالى-: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم:58)، وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قرأ هذه الآية، فسجد وقال: "هذا السجود فأين البكاء؟!"، وقال -تعالى- أيضًا: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء:109)، وعن عبد الله بن الشخير قال: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُصَلِّي، وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ!" يَعْنِي: يَبْكِي. (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).

ومِن الأمور المنهي عنها في السجود:

- افتراش الذراعين: لحديث أنس المرفوع: (اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الكَلْبِ) (متفق عليه)، والمراد بالاعتدال: التوسط بيْن الافتراش والقبض. (وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الكَلْبِ): أي لا يجعل ذراعيه على الأرض كالبساط أو الفراش؛ ولحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان: "يَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ" (رواه مسلم)، ولحديث البراء مرفوعًا: (إِذَا سَجَدْتَ، فَضَعْ كَفَّيْكَ وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ) (رواه مسلم)، وروى الطبراني وغيره مرفوعًا بإسنادٍ ذكر الشوكاني أنه صحيح: (لَا تَفْتَرِشْ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَاعْتَمِدْ عَلَى رَاحَتَيْك، وَأَبْدِ ضَبْعَيْكَ، فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ سَجَدَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْك).

- النقر في الصلاة كالغراب أو الديك:

لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نَهَانِي رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلَّم- عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ, وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ, وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ" (رواه أحمد، وقال الألباني: حسن لغيره)، وورد النهي عن نقرة كنقرة الغراب عند أبي داود والنسائي وابن ماجه.

والمراد بالنقر: ترك الطمأنينة وتخفيف السجود بأن لا يمكث فيه إلا قدر وضع الديك أو الغراب منقاره فيما يأكله بسرعة ومتابعة مِن غير تلبث.

وإقعاء الكلب: أن يلصق أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض.

 كفت الثياب وشعر الرأس:

بتشمير الأكمام أو ثني البنطلون -غير ثنيته الأصلية-، وضم الشعر؛ لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أُمِرَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلم- أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلاَ يَكُفَّ شَعَرًا وَلاَ ثَوْبًا" (متفق عليه)، وفي الحديث المرفوع: (ضَعْ أَنْفَكَ لِيَسْجُدَ مَعَكَ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).

وعن ابن عباس أنه رأى عبد الله بن الحارث -وهو صحابي شهد بدرًا- يصلي ورأسه معقوص إلى ورائه (وعقص الشعر ضفره وفتله، والعقاص خيط يشد به أطراف الذوائب) فجعل يحله، وأقر له الآخر: (أي استقر لما فعله ولم يتحرك)، ثم أقبل على ابن عباس فقال: مالك ورأسي، قال: إني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّمَا مَثَلُ هَذَا، مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ) (رواه مسلم).

وعند أحمد وابن ماجه ولأبي داود والترمذي في معناه نهيه -صلى الله عليه وسلم- أن يصلي الرجل ورأسه معقوص، وورد القول بذلك عن عبد الله بن مسعود وابن عمر وعثمان بن عفان، والجمهور على أن النهي للمصلي سواء فعله في الصلاة أو قبْل أن يدخلها، قال الشوكاني -رحمه الله-: "قيل: والحكمة في ذلك أنه إذا رفع ثوبه وشعره عن مباشرة الأرض أشبه المتكبرين".