القدس "عربية - إسلامية الهٌوية" رغم ضراوة الصراع!

  • 195

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

أقول بعيدًا عن التنظير -وما أسهله!-: إن المتأمل في واقع المسلمين اليوم يشعر بالحسرة والمرارة، نظرًا لما أصاب الأمة مِن ذلٍّ وهوانٍ وضعف، وإذا قمنا الآن بعمل مسحٍ عرضي واستقراء دقيق للواقع في بلاد المسلمين؛ نلحظ بوضوحٍ شديدٍ أن رصيد الأمة الحضاري بفروعه المختلفة مِن فكرٍ وسياسة وثقافة قد أوشك على النفاذ!

وهذا فضلًا عن رصيدها العسكري والاقتصادي، والسبب في ذلك: ضراوة الصراع القائم منذ عهدٍ بعيدٍ بيْن الأمة وبيْن أعدائها، ثم بسبب بعض أبناء الأمة الذين قاموا ولا يزالون يقومون بدورٍ مشبوهٍ فكانوا مخلبًا، وخنجرًا مسمومًا في ظهر أمتهم، خانوا الأمة يوم أن هاجموا الثوابت وأسهموا بشكلٍ كبيرٍ في عملية نشر التغريب في ديار المسلمين، وهذا الصنف بلا شك يعتريه خور ونقص في عقيدته وفكره؛ لذا فإن الأمة الآن تحتاج إلى جهود المخلصين مِن أبنائها لمعالجة الشروخ التي أحدثها هؤلاء في جسد أمتهم!

لذا فإن الأمة المسلمة تحتاج إلى وقتٍ ليس بالقليل حتى تقوم مِن مرقدها، وحتى تستطيع أن تشعل فتيل الإصلاح مرة أخرى، وذلك بسبب أنها تغرد خارج السرب مِن زمنٍ بعيدٍ.

إن قرار "ترامب" الأخير والذي يمثـِّل حقيقة غفل عنها المسلمون؛ ألا وهي حقيقة الصراع بيْن المسلمين واليهود بصفةٍ خاصة، فهو صراع عقيدة ووجود، وليس صراع أرض وحدود، ومِن الواضح أن قرار "ترامب" بأن القدس هي عاصمة إسرائيل قد أحدث دويًّا هائلًا في العالَمين الإسلامي والعربي، ولكن سرعان ما سينخفض هذا الدوي الهائل، وسيكتفي المسلمون والعرب بالشجب والاستنكار كعادتهم منذ سقوط الدولة العثمانية إلى يومنا هذا!

إن قرار "ترامب" الآن هو: النتيجة الطبيعية للأحداث والخطوات التي ترتبت على معاهدة "سان ستيفانو" عام 1295هـ -1878م، والتي ساهمتْ بشكلٍ كبيرٍ في إضعاف الدولة العثمانية، ومِن ثَمَّ القضاء عليها!

إن قرار "ترامب" الآن هو: النتيجة الطبيعية للأحداث والخطوات التي اتخذها اليهود في عصر السلطان عبد الحميد الثاني -رحمه الله-؛ لاسيما زعيم اليهودية العالمية (هرتزل).

إن قرار "ترامب" الآن هو: النتيجة الطبيعية للأحداث والخطوات التي ترتبت على ما فعله الشباب المسلم العثماني في جمعية الاتحاد والترقي ثم الخروج في المظاهرات التي عمت البلاد عام 1909م.

إن قرار "ترامب" الآن هو: النتيجة الطبيعية لوعد بلفور الذي صدر عام 1917م، والذي وعد بأن تكون فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود.

إن قرار "ترامب" الآن هو: النتيجة الطبيعية لتولية "مصطفى كمال أتاتورك" مقاليد الدولة، وقيام الجمهورية التركية، وإلغاء الخلافة عام 1923م.

إن قرار "ترامب" الآن هو: النتيجة الطبيعية والمتوقعة بعد أن بعُد المسلمون عن منهجهم وطريق نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وهو النتيجة الطبيعة لحركات التغريب، وهو النتيجة الطبيعية للطعن في الثوابت، ولكن رغم كل هذا نقول: إن القدس عربية إسلامية الهٌوية رغم ضراوة الصراع، ورغم أنف اليهود، فإن أول مَن سكن القدس هم اليبوسيون مِن بطون العرب الكنعانيين مِن جزيرة العرب؛ ولذا كان أقدم اسم سميت به فلسطين كنعان نسبة للكنعانيين العرب، وقد كانت هناك محاولات مِن بني إسرائيل لإخراج العرب مِن بلادهم والسيطرة عليها، ولكنها فشلت، وبقيت القدس تحت السيطرة العربية إلى عهد نبي الله داود -عليه السلام- الذي فتح بيت المقدس، ثم بعد موته جاء ولده سليمان -عليه السلام-، فالقدس عربية منذ القدم، والعرب هم أول مَن سكنها، ثم إنها إسلامية الهوية، فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سِتٌّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ... ) وذكر منها: (وفتح بيت المقدس) (رواه أحمد وصححه الألباني).

ثم توالت الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، وانتصر المسلمون على الروم في معركة أجنادين، وكان قائد المسلمين في تلك المعركة سيف الله المسلول، خالد بن الوليد -رضي الله عنه-؛ فدارت رحى الحرب بيْن المسلمين والروم، حتى كتب الله النصر لأوليائه، وقد فتحت عدة مدن فلسطينية آنذاك، منها: عسقلان، ونابلس، والرملة، وعكا، واللد، وفتح عمرو بن العاص مدنًا أخرى، منها: يافا، ورفح، وغزة.

وبهذا مهدت الجيوش الإسلامية في خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- الطريق للزحف نحو بيت المقدس.

وبعد موت الصديق تولى الخلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، وكان قائد جيوش المسلمين، أبو عبيدة عامر بن الجراح -رضي الله عنه-، فحاصر أهل إيلياء حتى نزلوا على الصلح مع المسلمين، وذلك بأن يعطوا الجزية، ويكونون تحت الحكم الإسلامي، ولم يجرؤ اليهود طوال أيام الخلفاء الراشدين والخلافة الأموية على الاستيطان بالقدس، فبقيت القدس دولة إسلامية حتى وقعت القدس تحت الحكم العبيدي الفاطمي في عهد المعز لدين الله، ثم توالت الحروب للاستيلاء على فلسطين، وجاءت الحملات الصليبية المتتالية، والتي استمرت حوالي مائتي عامٍ؛ شهدت سبع حملات صليبية قام بها العديد مِن ملوك أوربا، وقاومت فيها الأمة الإسلامية بكل ما استطاعت مِن قوةٍ.

وفي عام 492 هـ - 1099م، اقتحم النصارى بيت المقدس وأخذوها، ودخلوا المسجد الأقصى وقتلوا فيه مِن المسلمين نحو سبعين ألفًا! قال ابن خلدون في كتابه العِبَر: "استباح الفرنجة بيت المقدس، وأقاموا في المدينة أسبوعًا ينهبون ويدمرون، وأُحصِي القتلى بالمساجد فقط مِن الأئمة والعلماء والعبّاد والزهاد المجاورين فكانوا سبعين ألفًا أو يزيدون!".

ثم يذكر التاريخ النصر المظفر لصلاح الدين بعد الحملة الصليبية الثانية، وذلك في موقعة "حطين" حيث تمكنت جيوش صلاح الدين مِن استرداد عكا، ويافا، وبيروت، وجُبَيْل، ثم عسقلان، وغَزَّة، وذلك بعد معارك دامية.

وفي أواخر جُمادى الآخرة سنة ٥٨٣هـ - ١١٨٧م اتجه صلاح الدين صوب القدس، وبعد حصار شديد يدخل صلاح الدين في مشهدٍ مهيبٍ المدينة المقدسة في ٢٧ مِن رجب ٥٨٣هـ - ١١٨٧م بصورةٍ إنسانية تناقِض وحشية الصليبيين حين غزوها قبْل بضع وثمانين سنة!

وهكذا يثبت التاريخ بأن القدس عربية "إسلامية الهٌوية"، رغم ضراوة الصراع.