المستوطنات الإسرائيلية أخطر وسائل تهويد القدس

  • 201

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد دأبت الحركة الصهيونية منذ بدايات الهجرة اليهودية إلى فلسطين في مطلع القرن العشرين الميلادي على إقامة المستوطنات (المستعمرات) الصهيونية في فلسطين لتوطين اليهود فيها!

فالاستيطان هو العنصر الأساسي الثابت، والسلاح الحديث القديم في الإستراتيجية الصهيونية قبْل وبعد عام 1948م، أي قبْل وبعد قيام دولة إسرائيل، ولهذا كان بن جوريون مؤسس دولة إسرائيل يعرّف الصهيونية بأنها هي الاستيطان.

مستعمرات لا مستوطنات:

ومما ينبغي التنبُّه له أن كلمة (مستعمرة) أقرب في الدلالة مِن كلمة (مستوطنة)؛ إذ أن كلمة مستوطنة تعني اتخاذ المكان وطنًا وتوطنه، وهي كلمها لها دلالة تاريخية بالنسبة للغرب؛ إذ تعني أن هناك أرضًا بلا شعب أو سكان يتخذها المستوطنون لهم وطنًا، وهو ما يروِّج له و يدعيه اليهود منذ أن وطأت أقدامهم أرض فلسطين، أما كلمة (مستعمرة) فتعني عند الغرب الاستغلال والسيطرة، وتحمل عند العرب ودول العالم الثالث معنى بغيضًا يتمشى تمامًا مع أطماع اليهود في فلسطين، ومع الغرض مِن قيام دولة إسرائيل، والتي هي في الأساس دولة استعمارية عنصرية زرعها الغرب في المنطقة العربية لما وراءها مِن تحقيق مصالح الغرب واليهود في المنطقة.

شبكة استيطانية يهودية داخل الأراضي المحتلة:

وخلال 50 سنة مِن بعد حرب يونيو 1967م، والاستيلاء على القدس الشرقية أنشأت إسرائيل شبكة استيطانية مِن مئات المستوطنات في القدس الشرقية وحولها في ظل الاتفاق الضمني بيْن حزبي: "الليكود والعمل"، ومختلف الأحزاب الإسرائيلية لتهويد القدس، وجعلها عاصمة لإسرائيل، وعدم العودة إلى حدود ما قبْل 5 يونيو 1967م.

وهذه المستوطنات ليستْ مشروعات اقتصادية استثمارية لها جدوى اقتصادية، بل هي وسيلة حديثة قديمة يُنفق عليها المليارات للاستيلاء على أرض فلسطين، وهي ورقة هامة للضغط الإسرائيلي لتوسيع حدودها لأكبر قدرٍ ممكن مِن الأرض العربية في أي مفاوضات قد تضطر إسرائيل للدخول فيها.

والاستيطان كذلك له صورة عسكرية؛ إذ تتسم هذه المستوطنات منذ نشأتها بالطابع العسكري، لكونها تزرع داخل التكتلات السكانية الفلسطينية وبجوارها وحولها لإحداث التغيير السكاني المطلوب بزيادة الكثافة السكانية لليهود في الأراضي التي يسكنها الفلسطينيون بما فيها القدس القديمة، وهدفها الأكبر: التغيير الديموغرافي (السكاني) للقدس الشرقية وتهويدها، وتحويل الفلسطينيين في المستقبل القريب -مع وسائل أخرى- إلى أقلية!

لذا فالمستوطنات حصون قتالية مسلحة ومعادية لكل ما هو فلسطيني يحيط بها؛ إذ تتصارع معه على اقتسام الأرض، وهي تقام مِن أول يوم لها -وطوال بقائها- في حماية المؤسسة العسكرية الإسرائيلية؛ لأنها مفروضة على واقع الأرض الفلسطينية فرضًا!

لقد بدأت حكومة حزب العمل المشروع الاستيطاني بعد حرب يونيو 1967م بخطة للاستيطان وضعها (إيجال آلون) بدعوى الاحتياجات الأمنية الحيوية لإسرائيل تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكن سرعان ما خرجت الحكومات الإسرائيلية سواء كانت مِن حزب العمل أو الليكود عن معايير خطة (إيجال آلون)، كما في إنشاء مستعمرة (كريات أربع) في الخليل، ومستعمرة (ياميت) في سيناء أثناء احتلالها، وتحول الاستيطان إلى طوفانٍ مِن المستوطنات خاصة بعد الخروج مِن سيناء، وانتهاء الحرب مع لبنان عام 1982م؛ إرضاءً للناخبين والمتشددين الإسرائيليين، وتعويضًا عن الفشل في الاحتفاظ بسيناء والبقاء في لبنان.

وقد راعت خطة الاستيطان الإسرائيلية في بناء المستوطنات:

- أن تغطي مختلف الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة لمزيدٍ مِن السيطرة عليها بلا مبررٍ أمني أو غيره، كما في المستوطنات التي أقيمتْ في سائر أنحاء الضفة الغربية وغزة والجولان.

- أن توزع هذه المستوطنات توزيعًا يسمح بالتواصل بينها، ويساهِم في فصل الأجزاء العربية والفلسطينية عن بعضها، كالشريط الاستيطاني المحاذي للخط الأخضر الفاصل بيْن إسرائيل (فلسطين المحتلة سنة 1948م) وبيْن القدس الشرقية والضفة الغربية، والمستوطنات الفاصلة بيْن القدس الشرقية والضفة الغربية، والمستوطنات الفاصلة بيْن شمال الضفة الغربية وجنوبها، وبيْن شمال مرتفعات الجولان وجنوبها.

وقد نجحت السياسة الاستيطانية بالفعل في تحقيق أهدافها: فاستولت إسرائيل على مساحاتٍ كبيرةٍ مِن الأراضي الفلسطينية المحتلة لإقامة مئات المستوطنات عليها، وزرع الإسرائيليون لأنفسهم تواجدًا كبيرًا مؤثرًا داخل الأراضي المحتلة.

وقطعت إسرائيل التواصل بيْن المناطق السكنية الفلسطينية؛ وعليه فالفلسطينيون يعيشون محاصَرين في مدنهم وقراهم، ولا يستطيعون الانتقال بحريةٍ داخل الأراضي المحتلة، حيث تفصل بينهم المستوطنات والطرق التي تربط بينها، والتي تتحكم فيها عشرات البوابات والحواجز ونقاط التفتيش الإسرائيلية!

- كثـَّفت إسرائيل مِن تواجدها العسكري في الأراضي المحتلة مِن خلال قوات الجيش الإسرائيلي الرئيسية وقوات الاحتلال المنتشرة لحماية المستوطنات، ومِن خلال المستوطنين اليهود المسلحين التابعين لقوات الاحتلال مكَّنت هذه الكتل الاستيطانية سلطات الاحتلال مِن سنِّ قوانين وإصدار قرارات لتحقيق مكاسب على الأرض لبناء أو لحماية المستوطنات أمنيًّا بنزع ملكيات فلسطينية، وإزالة مزروعات وبساتين، واقتلاع أشجار، ورفض التصريح لمبانٍ فلسطينية جديدة حولها، إلخ.

- إيجاد حقائق على الأرض يصعب تغيرها، وبالتالي يتعذر معها العودة إلى حدود ما قبْل حرب يونيو 1967م.

المستوطنات والسيطرة على الأرض العربية:

بعد حرب يونيو 1967م واحتلال القدس الشرقية بدأتْ مباشرة خطوات التهويد خاصة في مدينة القدس القديمة؛ فتم إعلان قرار توسيع نطاق حدود بلدية القدس وتوحيدها في 28 يونيو 1967م.

وداخل المدينة القديمة: أعلن عن مصادرة 116 دَوْنَمًا مِن أحياء البلدة القديمة، وهدم الحي العربي (حارة الشرف) مِن حي المغاربة في القدس القديمة، وتهجير السكان العرب مِن هذه المناطق بالقوة، وذلك لتوسيع رقعة الحي اليهودي بالقدس القديمة مِن 5 دَوْنَمَات إلى 130 دَوْنَمَا، مع بنائه في نمطٍ يمزج بيْن القديم والحديث، وتوافدت عليه أفواج مِن المستوطنين اليهود، ليصل عدد سكانه إلى 2300 يهودي.

وخارج سور المدينة القديمة: تمت مصادرة 3345 دونمًا مِن أراضي حي الشيخ جراح، ووادي الجوز، وأرض السمار في شتاء 1968م، لتقام عليها أحياء استيطانية يهودية تغلق الأفقين الشمالي والغرب مِن القدس الشرقية، بإقامة مستوطنات: (رامات أشكول)، و(عفعات همفتار)، و(معلوت دفنا)، و(التلة الفرنسية)، والتي شكَّلت أول الأطواق مِن المستوطنات حول القدس، تربط بين القدس الشرقية (وسكانها جميعًا مِن العرب قبْل حرب يونيو 1967م) والقدس الغربية (وسكانها جميعًا مِن اليهود)، وتصل القدس الغربية بمنطقة الجامعة العبرية في جبل المشارف (سكويس)، وتم إسكان المستوطنين اليهود فيها على عجل؛ للتحكم في الطرق المحيطة بهذه المستوطنات، خاصة الشارع الممتد منها إلى مدينة (رام الله) في شمال القدس.

وفي صيف 1970م بدأ بناء الطوق الثاني مِن المستوطنات في القدس الشرقية، فتمت مصادرة 11780 دونمًا، وبناء:

- مستوطنة (نفي يعقوف) على مساحة 470 دونمًا في المنطقة الشمالية مِن القدس.

- مستوطنة (راموت) على مساحة 4840 دونمًا، في المنطقة الغربية.

- مستوطنة (تالبيوت الشرقية)على مساحة 2240 دونمًا، في المنطقة الجنوبية الشرقية.

- مستوطنة (جيلو) على مساحة 2700 دونمًا، في المنطقة الجنوبية الغربية.

- إقامة قرية (داود) على مساحة 130 دونمًا مِن حي الشماعة و100 دونم مِن وادي الربابة في منطقة باب الخليل.

وجدير بالذكر: أن كل ذلك تم في ظل حكم حكومة حزب العمل (التي يصفها البعض بالاعتدال وعدم التطرف، والمناداة بالسلام مع الفلسطينيين!) التي حكمت إسرائيل مِن 1967م إلى 1977م، فهي التي وضعت الأساسات لاستيطان القدس وتهويدها، وفرض القدس الموسعة لفرض الأمر الواقع، وبلغت مساحة الأراضي التي صادرتها حكومة حزب العمل في تلك الفترة 17 ألف دونم، وحتى عندما عاد حزب العمل إلى السلطة عام 1992م استثنى القدس مِن قرار تجميده للمستوطنات في يوليو 1992م.

أما حزب الليكود (المتطرف): فقد واصل هذه السياسة -سياسة فرض الواقع- بوضع خطة تطوير القدس، بهدف مضاعفة عدد اليهود في القدس الكبرى مِن 330 ألفًا إلى 750 ألفًا خلال 25 سنة (مِن 1985م إلى 2010م)، وساهَم في تنفيذ ذلك والمسارعة فيه الهجرة الكبيرة مِن يهود الاتحاد السوفيتي السابق، وتزايد الكلام وقتها عن تسويةٍ للصراع العربي الإسرائيلي، وهذا يبيِّن بجلاءٍ أن الاستيطان والتهويد سياسة ثابتة متفق عليها مِن كل الحكومات الإسرائيلية المتتالية العمالية والليكودية والائتلافية للحيلولة دون إعادة القدس للفلسطينيين أو تقسيمها مِن جديدٍ.

وفي شتاء 1980م تمتْ مصادرة 4400 دونمًا مِن قريتي بيت حنينا وشعفاط، وبناء مستوطنة (بسغات زئيف) و(بسغات عومر) ليكونا حلقة وصل بيْن المستوطنات الشمالية والشرقية.

وبنفس الكيفية واصلتْ -وتواصل- السلطات الإسرائيلية بناء المستوطنات حول القدس وفي الضفة الغربية إلى الآن؛ لتزيد -وبصورةٍ كبيرةٍ- مِن مساحة الأرض التي تسيطر بالفعل عليها، وتوزع هذه المستوطنات بكيفية تشكِّل حاجزًا ماديًّا دائمًا يفصل الأحياء العربية داخل القدس، وفي الضفة الغربية عن بعضها، ولتتحكم بها في الطرق الموصلة إليها، بينما تتواصل وتترابط هي مع بعضها البعض، ونجحتْ في ذلك نجاحًا كبيرًا، فهناك اليوم أكثر مِن 380 ألف مستوطن يهودي يعيشون وينتشرون في الضفة الغربية المحتلة، وأصبح الفلسطينيون يشكِّلون أقلية في القدس الشرقية المحتلة (نحو 37% فقط مِن مجموع السكان).

ويبقى السؤال الذي يحتاج إلى إجابة: أين كان زعماء العرب وحكامهم ورجال السياسة فيهم، ودورهم في رصد هذه السياسية الإسرائيلية الاستيطانية والتصدي لمنعها بطرق جادةٍ ومؤثرةٍ؟! وماذا كان ينتظرون مِن وراء تخاذلهم أمام هذه الأفعال الصهيونية في الأراضي العربية المحتلة المخالفة لكل القوانين والمواثيق والأعراف الدولية؟!

وقد ارتبطت سياسة الاستيطان الإسرائيلية بالسعي لتحقيق أهداف أخرى غير ما سبق، ولتحقيقها تقوم بممارسات استعمارية وعنصرية للوصول إليها، منها:

- تحجيم ووقف النمو السكاني للتجمعات العربية: وذلك بتضييق زمام المدن والقرى الفلسطينية وتقليل مساحتها الكلية، وعدم السماح بالبناء إلا على أجزاءٍ صغيرة منها، وفي أضيق الحدود، رغم التزايد السكاني للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، حيث تحيط المستوطنات بالمدن أو القرى فتحولها إلى مجموعاتٍ متفرقةٍ مِن الأبنية غير مرتبط بعضها ببعض، ولا مجال لها للاتساع؛ إذ تتخللها المستوطنات والطرق والشوارع الموصلة بينها طولًا وعرضًا.

أما مناطقها الخضراء: فيتم تجميدها بعدم السماح بالبناء عليها لتتحول بعد ذلك إلى مستوطناتٍ مقترحة أو تحت الإنشاء، كما يتم تحويل مناطق واسعة إلى مناطق خضراء لتكون مناطق احتياطية للتوسعات اليهودية مستقبلًا، أو تزرع غابات لمنع التمدد العربي إليها، ولكن ذلك لا يمنع أن تتحول هذه الغابات بعد ذلك إلى مناطق بناءٍ مِن جديد إذا أرادت سلطات الاحتلال بناء مستوطنة فيها.

- مثال ذلك: في عام 1970م صودرت أرض مساحتها 1398 دونمًا مِن قرية (شعفاط)، وزرعت أشجارًا، وأطلق عليها غابة: (راموت). وفي عام 1991م قطعت أشجار هذه الغابة وأقيمت عليها مستوطنة: (ريخس شعفاط)، وبنيت فيها 2156 وحدة سكنية لمستوطنين يهود!

- إبعاد الفلسطينيين عن أراضيهم:

ولم تكتفِ السلطات الإسرائيلية بمصادرة ألأراضي وتجميدها، بل عمدت إلى فرض ضريبةِ مِلْكِيَّة على السكان العرب منذ عام 1985م، بمَبَالغ مُبَالغ فيها حتى مع كونها أراضي لا يُسمح بالبناء عليها، لدفع الفلسطينيين إلى التخلص منها، حتى صارت بعض هذه الأراضي مطروحة للبيع أو معرضة للمصادرة بسبب ما عليها مِن الضرائب؛ هذا إلى جانب طرد السكان العرب وتهجيرهم أو إبعادهم قسرًا بعد مصادرة أراضيهم ومساكنهم تطبيقًا لسياسة الترانسفير أو الترحيل للسكان العرب أو نقلهم باتجاه الضواحي.

الإهمال الشديد للمناطق العربية:

في الوقت الذي تُنفق فيه المليارات على بناء الأعداد الكبيرة مِن الوحدات السكنية في المستوطنات -رغم أن نسبةً ليستْ قليلة منها غير مسكونة للإحجام مِن بعض اليهود، خاصة غير المتدينين المتشددين عن العيش في الأراضي المحتلة خوفًا مما تشهده مِن حين لآخر مِن اضطرابات-؛ فإن المناطق العربية التي بجوارها محرومة بصورةٍ ظاهرةٍ وواضحةٍ مِن الخدمات والرعاية الأساسية في شتى جوانب الحياة المختلفة!

ففي الوقت الذي تشهد فيه المناطق اليهودية مِن القدس استثمارات طائلة على البنية التحتية مِن: طرق، وحدائق، وكهرباء وإنارة للشوارع، وتوفير للمياه والغاز، وبناء عشرات الآلاف مِن الوحدات السكنية لليهود، وإنشاء مناطق تجارية وصناعية، وتقديم القروض الميسرة للمستوطنين اليهود للبناء؛ فإن الأحياء والمناطق العربية في القدس تشهد أوضاعًا للمعيشة صعبة للغاية؛ فبيوتها أشبه بجيوبٍ معزولة، مكونة مِن منازل مِن طابقٍ أو طابقين، والأرصفة لا وجود لها، والطرق أكثرها غير معبَّد، ومصابيحها قليلة، ومعظمها لا يعمل، ولا أماكن كافية لجمع القمامة والمخلفات، ولا اهتمام كافٍ بنقلها، ولا ملاعب أو حدائق عامة.

ولا بناء -أو إصدار تصريحات بناء- لوحدات سكنية جديدة تكفي السكان رغم النمو السكاني المتزايد للفلسطينيين، ورغم الإعلان -على الورق- مِن وقتٍ لآخر عن مشروعات مستقبلية لبناء وحدات سكنية في تلك المناطق؛ مما يضطر معه السكان العرب إلى بناء مساكن بدون تراخيص لتبقى هذه المساكن مهددة بالإزالة في أي وقت؛ لكونها غير قانونية، بينما تعيش الآلاف مِن العائلات مِن معدومي السكن لدى أقرباء لهم في أوضاع سكنية صعبة للغاية، بينما غادر البعض مدينة القدس إلى قرى خارجها في الضفة الغربية.

- سحب الهويات الفلسطينية:

بدأ إسقاط هويات الفلسطينيين المقدسيين مباشرة عقب احتلال اليهود للقدس في يونيو 1967م، حيث قامت سلطة الاحتلال بمنح المقدسيين الموجودين داخل القدس عند احتلالها بطاقة زرقاء؛ مما ترتب عليه إسقاط هوية نحو 44 ألفًا منهم؛ لأنهم كانوا خارج القدس عند احتلالها.

وتتفنن السلطات الإسرائيلية في وضع القوانين التي تمكِّن هذه السلطات مِن حرمان الفلسطينيين مِن بطاقات هويتهم، وتتعامل مع الفلسطينيين كمقيمين في الأراضي المحتلة لا كمواطنين فيها! حيث خسر آلاف الفلسطينيين هوياتهم التي تمكِّنهم مِن الإقامة -خاصة في القدس- بسبب السفر للخارج، أو الانتقال للضفة الغربية نتيجة أزمة السكن، فمَن تلك القوانين الإسرائيلية التي بسببها فقد الفلسطيني المقدسي حق الإقامة في القدس أنه إذا أقام خارج القدس لمدة سبع سنوات، أو حصل على حق الإقامة في بلدٍ آخر، أو حصل على جنسيةٍ أخرى يفقد هويته بذلك.

ومما تضيّق به سلطات الاحتلال على الفلسطينيين: أنها تقوم بمنح أذونات خاصة للفلسطينيين لدخول القدس، ولا تسمح بدخول سياراتهم، بما يعني تركها خارج المدينة عند دخول المدينة، كما تتعمد سلطات الاحتلال منع المصلين مِن الضفة الغربية وغزة مِن الوصول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه!

ومما يلفت النظر: أن نسبة هجرة الفلسطينيين النصارى أعلى بكثيرٍ مِن هجرة الفلسطينيين المسلمين؛ إذ بلغت أعداد النصارى في أواخر التسعينيات في فلسطين 120 ألف نصراني مِن مجموع النصارى الذي بلغ 440 ألفًا قبْل عام 1948م!

التضييق على المؤسسات التعليمية الفلسطينية:

حافظ الفلسطينيون بعد الاحتلال الإسرائيلي للقدس والضفة على الوضع قبْل الاحتلال في يونيو 1967م، ومع ذلك فقد دأبتْ سلطات الاحتلال الإسرائيلية على التضييق على العملية التعليمية في المدارس الفلسطينية بأمورٍ، منها:

- تفريغ المؤسسات التعليمية مِن كوادرها.

- إصدار قرار بإشراف البلدية الإسرائيلية على امتحانات الثانوية العامة منذ عام 1997م.

- إصدار قوانين متلاحقة لفرض المناهج العبْرية على المدارس الفلسطينية؛ حيث تدير بلدية القدس الإسرائيلية 34 مدرسة، في حين تدير معظم بقية المدارس وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)؛ بالإضافة إلى مدارس خاصة أنشأها فلسطينيون للحد مِن التحاق التلاميذ الفلسطينيين بالمدارس التي تديرها سلطة الاحتلال.

مستوطنة جبل (أبو غنيم):

جاء بناء هذه المستوطنة ليبيِّن بوضوح ما عليه الصهاينة مِن التمادي في الاستيطان والتهويد لمدينة القدس، فجبل (أبو غنيم)، والذي تطلق سلطات الاحتلال عليه اسم: (هار حوما) يقع على مسافة 2 كيلو متر فقط مِن شمال مدينة (بيت لحم)، ويعد امتدادًا طبيعيًّا للمدينة يمكنها مِن التوسع العمراني فيه مستقبلًا، فهو الاحتياطي شبه الوحيد لبناء مساكن عربية جديدة، ولكن سلطات الاحتلال قررت بعد حرب يونيو 1967م فصل منطقة جبل (أبو غنيم) عن بيت لحم، واعتباره امتدادًا لبلدية القدس في إطار التخطيط لمدينة القدس الموسعة التي تكون الأغلبية فيها لليهود في المساحة والتعداد!

وفي عام 1991م أُعلن عن مصادرة الأراضي المحيطة بجبل (أبو غنيم)؛ تمهيدًا لبناء 6500 وحدة سكنية على مراحل، لاستيعاب 40 ألف مستوطن، وقد صدر قرار الاستيطان في (أبو غنيم) في فبراير 1997م، وقد أثبتت الأيام أن هذا المشروع يرمي إلى استيطان أعدادٍ أكبر مِن ذلك بكثيرٍ.

ويُلاحظ على هذا المشروع الاستيطاني:

- أن التفكير فيه وبداية تنفيذه جاء بعد اتفاق "أوسلو" مع القيادة الفلسطينية، وكأن الاتفاق قد فتح شهية سلطات الاحتلال لابتلاع المزيد مِن الأرض المحتلة، خاصة في القدس، والخط الأخضر الفاصل بينها وبيْن الضفة الغربية المحتلة.

- أن المستوطنة تقع في جنوب القدس لتربط ما تم بناؤه مِن أحياءٍ في القدس الشرقية بشبكة طرق سريعة مِن حي (جيلو) اليهودي في أقصى الجنوب الغربي للقدس إلى (راموت) في الشمال الغربي للقدس، مكملة مشروع عزل القدس الكبرى تمامًا عن الضفة الغربية.

- أن المستوطنة تؤثـِّر سياحيًّا واقتصاديًّا على بيت لحم، والتي تستضيف الحجاج النصارى لمكانتها عندهم، حيث وُلد فيها المسيح -عليه السلام-، وفيها كنيسة القيامة.

- أن المستوطنة تخنق مدن بيت لحم، وبيت جالا، وبيت ساحور؛ حيث تبقيها دون أراضٍ تستوعب الزيادة السكانية الطبيعية فيها، فبيت لحم -مثلًا- صارتْ محصورة شمالًا بمستوطنة جبل (أبو غنيم)، ومِن الجنوب بمستوطنة (كفار عتصيون)، ومِن الغرب بمستوطنة (بيتار العليا)، وِمن الشرق بمستوطنة (تفوح).

- أن الطرق الالتفافية بيْن مستوطنة (جيلو) ومستوطنة جبل (أبو غنيم)، ستفصل شوارعها بيت لحم عن شرق القدس وغربها، وتمزق بذلك وحدة الأراضي الفلسطينية، وتمنع التواصل بينها.

- أن بناء المستوطنة يغيِّر مِن ملامح التركيبة الجغرافية والديموغرافية للمنطقة؛ إذ تصبح الضفة الغربية مشطورة إلى منطقةٍ شماليةٍ تمتد مِن شمال القدس ورام الله حتى شمال الضفة عند جنين وطولكرم، ومنطقة جنوبية إلى جنوب دائرة استيطان القدس الكبرى وحتى الخليل، وبذلك تتحول الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى ثلاث كانتونات: غزة وشمال القدس حتى جنين، وطولكرم، وجنوب القدس حتى الخليل.

ورغم الاحتجاجات الفلسطينية والمصادمات مع قوات الاحتلال، ورغم الإدانات الدولية، وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة المنددة بكل ما مِن شأنه تغيير الأوضاع في القدس خاصة "والأراضي العربية المحتلة بعد حرب يونيو 1967م عامة"، ورغم توقيع إسرائيل اتفاقية "أوسلو" مع السلطة التنفيذية الفلسطينية، والتي بمقتضاها تخضع القدس للمفاوضات النهائية بيْن الطرفين، ولا يجوز التصرف فيها بأي تصرفاتٍ أحادية غير متفق عليها مِن طرفي الاتفاق؛ فإن الاستيطان في القدس سياسة إسرائيلية لا تتوقف، بل تتزايد؛ لأنها لا تجد الرادع القوي الذي يتصدى بقوةٍ لها، ويوقظها مِن أطماعها الاستعمارية العنصرية.