تأملاتٌ في النصيحة

  • 361

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد خَلَقَ اللهُ الإنسانَ مَدَنِيًّا بطَبْعِه، يعيش في تجَمُّعَات؛ وهذا يستلزم وجودَ عِدَّة دوائر مِن الانتماء بالنسبة له؛ فهو ينتمي أولًا إلى نَفْسِه، ثم إلى أُسْرَتِه، ثم إلى عائلتِهِ وقبيلته، ثم إلى طائِفَتِه وجَمَاعَتِه، ثم إلى بَلَدِه ووَطَنِه، ثم إلى أُمَّتِه، ثم إلى الإنسانِيَّة كُلِّهَا.

وقد تَتَطَابقُ المصالح بيْن هذه الدوائر -وهذا نَادِرٌ-، وكثيرًا ما تتقاطعُ -وهذا شَأْنُ الناسِ في أغلبِ أحوالِهِم-، وقد تتباعدُ المصالح ولا تلتقي.

وأعظمُ الناسِ قَدْرًا عند الله -وعند الناس- مَن ينصح للبَشَرِيَّةِ ويُقَدِّمُ مصلَحَتَهم في آخرتهم ودنياهم على مصلحة نفسه الدنيوية، ويصل الأمر إلى أعلى صُوَر المِثَالِيَّة في الرُّسُلِ الكِرَامِ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم وَسَلَامُهُ-.

وتَأَمَّلْ قَوْلَ اللهِ -تَعَالَى- عن إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَام-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (هود:74-75)، وقَوْلَهُ -تَعَالَى- عنه أيضًا: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم:35-36)، وحديثَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يحكي نَبِيًّا من الأنبياءِ -ضَرَبَهُ قَوْمَهُ حتى أَدْمَوْهُ، وهو يمسَحُ الدمَ عن وَجْهِهِ ويقول-: (اللهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُم لَا يَعْلَمُونَ) (متفق عليه)، وقَولَه لمَلَكِ الجِبَالِ -وقد استَأْذَنَهُ أن يُطْبِقَ على الكُفَّارِ الأَخْشَبَيْن بعد رحلةِ معاناةٍ عظيمةٍ لِلطَّائِفِ-: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) (متفق عليه).

وَتَأَمَّلْ في قصة يُوسُفَ -عليه السلام- حينَ أَوَّلَ رُؤيا المَلِك ونَصَح فيها لِقَوْمٍ كُفَّارٍ ظَلَمةٍ اتَّهَمُوه في عِرْضِهِ بما يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَرِيءٌ منه ثم سَجَنُوهُ على هذه التهمة المكذوبة بِضْعَ سِنِينَ، ثم هو يُخَطِّطُ لَهُم ما يصنعون في خَمسةِ عَشَرَ عامًا: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ . ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ . ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) (يوسف:47-49)، وهو لا يزالُ بَعْدُ محبوسًا في السجن مظلومًا، وَتَأَمَّلْ دعاءه لِإِخْوَتِه -الذين باعوه رقيقًا بعد حَسَدٍ وبَغْيٍ وطُغْيانٍ وظُلمٍ، وحِرمانٍ له مِن أَبِيه وحِرمانِ أَبِيهِ مِنْهُ-: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (يوسف:92-93)، وَتَأَمَّلْ ما روي عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال لأهلِ مَكَّةَ -بعد أذى إِحْدَى وعِشرينَ سَنَةٍ-: "اذْهَبُوا فَأَنْتُم الطُّلَقَاء".

إذا تَأَمَّلْتَ كُلَّ ذلكَ؛ أَدْرَكْتَ هذه النوعيةَ العظيمةَ مِن البَشَر التي شرح الله لها صدورها حتى تَحَمَّلَتْ أن تنصَح لِلعالَم مع شدة أذى الناسِ لَهُم.

وهُنَاكَ مِن الناسِ مَن يُقَدِّمُ مصلَحَتَهُ على مصلَحَةِ أُسْرَتِه وعائِلَتِه وقَبيلَتِه، ومنهم مَن يُضَحِّي مِن أَجْلِهِم ولو أتى ذلك على مَصلَحَةِ نَفْسِه -بل وعلى حياته-، ومنهم من يُقَدِّمُ مَصلَحَةَ عائلتِه على مَصلَحَةِ طائفتِه، ومنهم مَن يجعل طائفتَه فوق عائلتِه، ومنهم مَن يُقَدِّمُ مصلَحَةَ جَماعَتِه على عائلتِه، ومنهم مَن يُقَدِّمُ مصلَحةَ عائلتِه على جماعتِه، ومنهم مَن يُقَدِّمُ مصلحةَ أهلِ بَلَدِهِ على مصلَحَةِ أُمَّتِه -ورُبَّمَا لم يَعْبَأ بها قَطّ-، ومنهم مَن يُقَدِّمُ مصلَحَةَ أُمَّتِهِ على أهلِ بَلَدِهِ -بل يرى أن مصلَحةَ أهلِ بَلَدِهِ لا تتحقَّقُ إلا مع مصلَحَةِ أُمَّتِهِ-، وهؤلاء أقربُ الناسِ وأشبههُم بأنبياءِ اللهِ وَرُسُلِهِ.

أما أَسْوَأُ الناسِ حَالًا وأَضْيَقُهُم صَدْرًا: فهو مَن يُضَحِّي بجميعِ المَصَالِح -حتى رُبَّمَا بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ- مِن أَجْلِ أن ينتقمَ مِن عَدُوِّهِ -بتضييعِ مصلَحَتِه- بِأَيِّ ثَمَنٍ، ولو بخرابِ الدُّنْيَا والبلادِ والعِبَادِ، مثل عبارة "شمشون" المشهورة في هدم المعبد: "عَلَيَّ وَعَلَى أَعْدَائِي!".

وإذا تَأَمَّلْتَ ما حَوْلَكَ مِن تقاطُعِ المَصَالِحِ وتَصَارُعِهَا وتَنَافُسِها، وَتَأَمَّلْتَ كذلك أدلة الشريعة الإسلامية التي لا نظيرَ لها في رِعَايةِ المصالِح ودَفْعِ المفاسِد عن النَّفْسِ والغَيْرِ -عن الفَرْدِ والجَمَاعَةِ، وعن الدولَةِ والأُمَّةِ- وضبطِ معاني المصالِح بأحسنِ ترتيبٍ -بتقديمِ مصلَحةِ الدِّينِ، ثم النَّفْسِ، ثم العِرْضِ، ثم العَقْلِ، ثم المَالِ-؛ علِمْت نعمةَ اللهِ عليكَ بالإسلامِ، وبَقِيَ أن تُطَبِّقَ ذلك عَمَلِيًّا في حياتِكَ.

وكل واحدٍ مِنَّا يَتَعَرَّضُ لاختباراتٍ واختياراتٍ كُلَّ يومٍ -بل كُلَّ سَاعَةٍ-، وهذه طبيعة الحياة (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (هود:7)، وهو بِطَبْعِهِ حَرِيصٌ على مصلَحَةِ نَفْسِه؛ ولكن حين ينتمي إلى كيانٍ ومجتمعٍ وأُمَّةٍ، وحين يكون صادقًا في تطبيق قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ) (رواه مسلم).

وحين يُدرِكُ أنه قد يَسَعُ الفردَ ما لا يَسَعُ الجَماعَةَ -في رعايةِ مصالِحِه، وكذلك لابد وأن يراعي مصلحَةَ مُجْتَمَعِهِ وأُمَّتِهِ-؛ حين يدرك كل ذلكَ: يُدرِكُ مدى صُعوبةِ الاجتهادِ والاختيارِ والمُوَازَنَة -بيْن المصالِح وبعضِها، والمَفاسِدِ وبعضِها، والمَصالِح والمَفاسِد وبعضِها البعض إذا اجتمَعَتْ- حتى يُقَدِّم أكبر المصلحتين ولو فاتَت أدناهُما، ويَدْفَع أكبر المفسدتين ولو احتمل أدناهما، ويوازن بيْن المصالح والمفاسد إذا اجتمَعَتْ وتلازَمَت، ويُدْرِك مدى حاجته إلى توفيق الله وإعانَتِه؛ فيخلص لله القصد والنِّيَّة، ويتَضَرَّع له بطَلَبِ الهِدَايةِ إلى الصراطِ المستقيمِ، وأن يُعِينَه على السدادِ مع قِلَّةِ البِضَاعَةِ وكَثْرَةِ الفِتَنِ، كما يبذل جهده في تحصيل الشورى مع إخوانه الَّذِين يتحملون مسئولية الجَمْعِ وليس الفَرْدِ، والَّذِين ينظرون بالعينين وليس بواحدةٍ، ويلتفتون إلى جوانب الأمر المختلفة، وليس إلى جانبٍ واحِدٍ ويُهْمِلُون أَدِلَّة الشرعِ التي شَهِدَت العُقُولُ السليمةُ بِصَوابِهَا وليس إعمالَ العَاطِفَة، ويرجون وَجْهَ اللهِ والدَّارَ الآخرةَ، ليس مَدْحَ الناسِ وثَنَاءَهُم ولا الفِرارَ مِن ذَمِّهِم وطَعْنِهِم.

وحين يَعْلَمُونَ جميعًا أن الأمر سيتعلق بمَصِير أُمَّةٍ وبَلَدٍ وطائفةٍ وجماعةٍ وأفرادٍ -في دِينِهم ودِمائِهِم وأَعْرَاضِهِم وأَمْوالِهِم-؛ لا يُمْكِنُهُم أن يكون اختيارُهم لِأَمْرٍ مُعَيَّنٍ اختيارًا عشوائيًّا -فضلًا عن أن يكون انتقاميًّا أو تَدْمِيرِيًّا- خاصَّةً أن الخَطَأَ -فَضْلًا عن الخَطِيئة- في ذلك قد يُكَلِّف أجيالًا مِن الإخفاقِ والتأَخُّر؛ عند ذلك يَعلَمون عظمةَ قولِ شعيب -عَلَيْهِ السَّلَام-: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود:88).

فالَّلهُمَّ هَيِّئْ لأُمَّتِنا أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فيه أَهْلُ طَاعَتِكَ، وَيُهْدَى فيهِ أَهْلُ مَعْصِيَتِك، ويُؤمَرُ فيهِ بالمَعْرُوفِ ويُنْهَى فيهِ عن المُنْكَرِ (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (الكهف:10)، (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:45-46).