الداعية الحق... أفعال لا أقوال!

  • 233

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلا شك أن ميدان القول غير ميدان العمل؛ فقد يسهل على الكثيرين أن يقولوا ويتكلموا، ولكن قليلٌ مِن هذا الكثير يستطيع أن يعمل، وقليلٌ ممَن يعمل يثبت عند العمل، ويقدر على تحمل الأعباء والمضي قُدُمًا نحو البذل والعطاء، وهؤلاء الرجال هم الصفوة الذين تقوم على أكتافهم الدعوات، وتتحقق مِن خلالهم الأهداف والغايات، ويُرتحل إليهم عند الشدائد والملمات؛ فهم الرواحل الذين يثبتون عند المحن، فتراهم وقد حاصرتهم الهموم وجذبتهم المنون، ولا هَمَّ لهم إلا نصرة دين الله وإعلاء كلمة الله -تعالى-.

والمتأمل في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً) (متفق عليه)، يجد هذا المعنى يتجلى بوضوح؛ فالمنتخَب مِن الناس، الصالح للصحبة، سهل الانقياد، نوع نادر الوجود، كالنجيبة الصالحة للركوب التي لا توجد في الإبل الكثيرة، القوية على الأحمال والأسفار، فذكر المائة للتكثير لا للتحديد.

ولذلك قال الشاعر:

وإذا صـفـا لـك مِـن زمـانـك واحـدٌ                  فـهـو الـمراد وأيـن ذاك الـواحـد؟!

وكان بعض الحكماء يقول: هذا زمان قحط الرجال.

وروي أن سهلًا التستري خرج مِن مسجدٍ، ورأى خلقًا كثيرًا في داخله وخارجه، فقال: أهل لا إله إلا الله كثير، والمخلصون "العاملون" منهم قليل، وقد نبه -سبحانه- على هذا المعنى في آياتٍ، منها: قوله -تعالى-: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ:13)، ومنها قوله -تعالى-: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) (ص:24)، ومنها: قوله -تعالى- في وصف السابقين المقربين: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (الواقعة:13-14).

وفي قصة طالوت بيان واضح لذلك، لمَّا رغب بنو إسرائيل في حمل السلاح لإخراج العدوِّ المحتلِّ مِن بلادهم، وكلَّموا نبيَّ زمانهم في ذلك ليتولَّى توجيههم، قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (البقرة:246).

فلمَّا رأى نبيُّهم هذا الإصرار على القتال أعلنَ التعبئة العامة؛ فكانت الصدمة الأولى، وظهرتْ بوادر الهزيمة النفسية التي لا تَقود إلا إلى مزيدٍ مِن التراجع والإخفاق أمام العدوِّ: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) (البقرة:246)، وهكذا تبيَّن أنَّ اندفاعهم الأوَّل كان مجرَّد نزوة عابرة لم تَصمُد أمام الخطوات العملية، وذلك شرُّ ما يُبتلى به الإنسان، أو تبتلى به الدعوات؛ فما بالكم لو ابتُليَت به الأمَّة بأسرها؟!

مِن هنا، فما أحوجنا إلى أناسٍ تركوا الاكتفاء بالتنظير، وتخلوا عن التشكي مِن الواقع المتردي والمستقبل المجهول، ونزلوا إلى أرض الواقع يترجمون أفكارهم إلى أعمالٍ حية، تتحدث عن نفسها، لا تحتاج إلى مَن يشرحها، أو يبسطها للناس؛ لأنهم رأوها ممارسة عملية على أرض الواقع، واعتادوها كما هي، أخلاقًا وسلوكًا ومعاملات.

ما أحوجنا إلى هذا الصنف مِن الناس، الذي يحمل همَّ دعوته، ويرفع لواءها؛ فهو رجل أعمال، لا رجل أقوال!

ينظر إلى الخلق يتصايحون باسم الإسلام، وينطقون باسم الإسلام، فيملئون الدنيا ضجيجًا وعجيجًا؛ فيكمم فاهه خوف الله -عز وجل-، ويعمد إلى العمل الخالص المتواصل المتقن، ولو كان قليلًا؛ تاركًا التغني بالشعارات لهواة الضجيج والصراخ!

ما أحوجنا إلى هذا الصنف مِن الناس الذي يتصف بالإيجابية، المفعم بالنشاط والأمل واليقظة، الذي لا يفتر أبدًا، وإذا رأى فتورًا نفخ فيه مِن همته وحماسه ليقوى، وإذا رأى انحرافًا صاح به ليستقيم!

ما أحوجنا إلى هذا الصنف مِن الناس، قوي الإرادة ذي الهمة العالية، الذي يؤثر العمل، ويترك الكسل، ويعلم أن الانتماء الحقيقي لدعوته هو انتماء عملي، وليس انتماءً قوليًّا وشكليًّا.

فمجرد انتحال الاسم أو الصفة لا يفيد حتى يُضافَ إليه العمل والتحقق بالوصف والمعنى، وإلا كان تزكية للنفس بغير حق؛ فكثيرًا ما يستمسك الناس بالاسم، بل ويتعصبون له، ويغضبون ممَن ينفيه عنهم، لكنهم يمعنون في التكذيب العملي لهذه الدعوى العريضة.

وقد كانت آيات القرآن الكريم حاسمة في هذا المقام، قال الله -تعالى-: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (النساء:123-124)، فالنص واضح وصريح؛ الانتماءات والأسماء وحدها لا تكفي، ولو كانت شريفة وصحيحة في ذاتها، حتى يقترن بها العمل؛ ولهذا كان بعض السلف يقولون: إن هذه أخوف آية في كتاب الله -تعالى-.

فعلى المنتسبين إلى الدعوة أنْ يعلموا أنَّ هذا الانتماء لا يجدي شيئًا حتى يقترن بالعمل، ويتحلى بعلو الهمة، ومواصلة السير، ونقاء السريرة، وصفاء السيرة، وتدارك العيب، وحُسن الخلق، وكمال الصدق مع الله -تعالى-.