شبهات الملاحدة (5)

  • 178

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الشبهة الخامسة: حول حديث: (خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ).

يتوهم البعض بطلان حديث: (خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ)، والذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (خَلَقَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ، فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ)، مستدلين على ذلك بأن أهل الحديث استنكروا هذا الخبر، فضعفه البخاري بقوله: "وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب وهو الأصح"، وأن هذا الحديث يتعارض مع ما جاء به القرآن الكريم مِن قوله -عز وجل-: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) (الأعراف:54)، وقوله -عز وجل-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (ق:38)؛ إذ إن الحديث قد جعل خلق الأرض وحدها قد استغرق سبعة أيام، بينما أثبت القرآن في أكثر مِن موضع أن خلق السماوات والأرض معًا كان في ستة أيام.

بالإضافة إلى أن هذا الحديث مخالف للآثار القائلة: إن أول الستة يوم الأحد، وهو الذي نزل عليه أسماء الأيام: الأحد، الاثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس..

وجه إبطال الشبهة:

1- لقد أكَّد العلماء على صحة الحديث سنًدا، فقد رواه مسلم في صحيحه، ورواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي، وابن مردويه، وابن أبي حاتم وغيرهم، وصحح إسناده أحمد شاكر، والألباني، والمعلمي اليماني.

أما قول البخاري: "وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب الأحبار، وهو أصح"؛ فإنه لا يقدح في صحة رواية مسلم، وإنما هو مِن قبيل الأصح والصحيح، والأصح مقدَّم على الصحيح.

2- إن التفصيل الذي في الحديث الشريف غير التفصيل الذي في الآيات التي تتحدث عن خلق السماوات والأرض؛ لذلك فالواجب هو ضم أحدهما للآخر كما ذكر أهل العلم ذلك، كما أن خلق آدم -عليه السلام- لا يُعد مِن الأيام الستة؛ لأن الأرض قد خُلقت قبْل خلقه ودبَّت عليها الحياة قبله بدليل قوله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:٣٠)، كما أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث إلى خلق السماوات، وإن لم ينص على ذكرها، وذلك في يومي الأربعاء والخميس؛ لأن النور والحرارة تحتاجهما الدواب، ومصدرهما الأجرام السماوية.

3- ليس هناك دليل على أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وما روي في ذلك مِن أحاديث مرفوعة لا تصح، وعامتها مأخوذة مِن الإسرائيليات، وكانت هذه التسمية قبْل الإسلام تقليدًا لأهل الكتاب، وهي تسمية طارئة؛ لأنها كانت في اللغات القديمة غير ذلك.

الخلاصة: 

ذهب العلماء إلى أن الحديث لا يتعارض مع الآيات التي تذكر أن خلق السماوات والأرض كان في ستة أيام؛ وذلك لأن خلق آدم -عليه السلام- في اليوم السابع، لا يدخل في الأيام المعدودة؛ لأن آدم -عليه السلام- جزءٌ مِن الأرض وليس منفصلًا عنها؛ ودليل ذلك قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون:12)، وغيرها مِن الآيات التي توضِّح حقيقة خلق الإنسان. 

وذهب بعض العلماء إلى أن خلق آدم -عليه السلام- تأخر عن خلق السماوات والأرض المذكور في الآيات؛ وذلك لأن الأرض قد سكنها -قبْل آدم- مخلوقات أخرى: كالجن، وغيرها، ودليل ذلك قوله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (البقرة:٣٠)، وهذا يدل على أن الجن سكنت الأرض قبل بني آدم، وهذا ما ذهب إليه المفسرون.

وذهب فريق ثالث إلى أن الخلق المذكور في الآيات يختلف عن الخلق المذكور في الحديث؛ فالخلق المذكور في الآيات هو خلق السماوات والأرض جملة، أما الخلق المذكور في الحديث فإنه تفصيل لما خلق الله في الأرض مِن جبال، وتربة، وشجر، ودواب، وغير ذلك، وهذا لا يتعارض مع الآيات، ولكن يُضم إليها. 

وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه إلى خلق السماوات والأرض، وإن لم يصرِّح بذلك؛ إذ الدواب تحتاج إلى النور والحرارة، ولا شك أن مصدرهما الأجرام السماوية، وهذا ما أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ)، كذلك  أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن بدء الخلق كان يوم السبت، وهذا هو الصحيح، أما مَن ذهب إلى أن بدء الخلق كان يوم الأحد فكان معتمدًا على آثار موقوفة أو ضعيفة قياسًا على هذا الحديث، وهي مِن الإسرائيليات التي أُخذت عن كعب، ووهب بن منبه، وغيرهما مِن مسلمي أهل الكتاب، وهذا ما ذكره الإمام السهيلي في "الروض الأنف"، وعاب على مَن قال: إن أول الأسبوع الأحد لا السبت، ومِن ثَمَّ فقد ثبتتْ صحة الحديث سندًا ومتنًا.