تأملات في النصيحة (6)

  • 270

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن مِن أهم المسائل في هذا الباب -باب الموازنة بيْن المصالح والمفاسد، ومعرفة مقاديرها-: مسألة كيفية معرفة وقوع الضرر والمفسدة، ووقوع فوات مصلحة مِن المصالح، ثم بعد ذلك الموازنة بينهما.

هذه المسألة مبنية على الاجتهاد بغلبة الظن، لا يجوز أن يكون ذلك بمجرد التوهم والشك، ولا يشترط في ذلك اليقين التام والعلم، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله.

وغلبة الظن تعرف بجريان العادة -مِن تَصَرُّف وسلوك الطرف المُتعامَل معه في ذلك-؛ فإذا عُرف أنه كلما أُمِر أو نُهِي أو خُولِف أَوقَعَ الضرر على مُخالِفِه، والناس عاجزون عن أن يدفعوا -بالنظر إلى ما في أيديهم-  فإن ذلك يكون حجّة في هذا الباب.

قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "أكثر المصالح والمفاسد لا وقوف على مقاديرها وتحديدها، وإنما تُعرف تقريبًا؛ لِعِزَّة الوقوف على تحديدها" (قواعد الأحكام، ص 100).

وهذا الأمر يحتاج إلى توفيقٍ مِن الله -عَزَّ وَجَلَّ-، لتقدير أدنى المفسدتين أو أقوى وأكبر المصلحتين، فهذا يحتاج إلى لجوءٍ إلى الله، وتضرُّعٍ إليه، واستخارة واستشارة، ودراسةٍ تامة للواقع قدر الإمكان، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وإنما علينا أن نبذل الجهد في معرفة واقعنا، ولا يجوز أن نعيش في الخيال والبُعد عن الواقع حتى نصف أمورًا لا يمكن أن تُقبل، أو نغفل عن قوى وموازنات يشهدها الجميع، إلا مَن يتكلم في هذا الباب بغير توفيقٍ مِن الله!

لذلك نقول: هذه المسألة مِن أخطر المسائل، لابد فيها مِن اللجوء إلى الله لتحصيل التوفيق، والتشاور، ودراسةٍ جيدة للواقع حسب المتاح مِن المعلومات.

قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "والوقوف على تساوي المفاسد وتفاوتها عِزَّة، لا يهتدي إليها إلا مَن وَفَّقَه الله -تعالى-، والوقوف على التساوي أعز مِن الوقوف على التفاوت؛ ولا يمكن ضبط المصالح والمفاسد إلا بالتقريب" (انتهى مِن قواعد الأحكام، ص20).

ومِن الأمثلة في ذلك: أيام الحجاج بن يوسف الثقفي، فقد كان يقول للناس: "إذا قلتُ لأحدِكم اخرُج مِن هذا الباب وخرج مِن غيره؛ ضربتُ عنقه"! وكان يخطب الناس حتى يحين وقت صلاة العصر لا يقول له أحدٌ: الصلاةَ أيها الرجل! حتى قال الْحَسَنُ -رحمه الله- لَمَّا مَاتَ الْحَجَّاجُ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَتَّهُ فَاقْطَعْ عَنَّا سُنَّتَهُ -وَفِي رِوَايَةٍ: شَيْنَهُ- فَإِنَّهُ أَتَانَا أُخَيْفِشَ أُعَيْمِشَ، يَمُدُّ بِيَدٍ قَصِيرَةِ الْبَنَانِ، وَاللَّهِ مَا عَرِقَ فِيهَا غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُرَجِّلُ جُمَّتَهُ وَيَخْطِرُ فِي مِشْيَتِهِ، وَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَهْدِرُ حَتَّى تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ؛ لَا مِنَ اللَّهِ يَتَّقِي، وَلَا مِنَ النَّاسِ يَسْتَحِيي، فَوْقَهُ اللَّهُ وَتَحْتَهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، لَا يَقُولُ لَهُ قَائِلٌ: الصَّلَاةُ أَيُّهَا الرَّجُلُ. ثُمَّ يَقُولُ الْحَسَنُ: هَيْهَاتَ! حَالَ دُونَ ذَلِكَ السَّيْفُ وَالسَّوْطُ" (ذكره القرطبي في تفسيره 16/ 339).

وهذا يدلنا على مسألة العمل بغَلَبَة الظنّ.

ولا يُشترط أن يباشَر جزءٌ مِن العقوبة بالضرب أو التعذيب قبْل أن يجوز للإنسان اعتبار فعل المفسدة الأدنى أو ترك المصلحة الأدنى لدفع مفسدة أكبر وجلب المصلحة الأعظم؛ بل غلبة الظن بناءً على مشاهدة الأمر الواقع وتكرر العادة وجريانها هو الذي كان عليه السلف، حتى ثبت عن عطاء وسعيد بن جبير أنهم كانوا يُصَلُّون الجمعة ظهرًا بالإيماء والحجاج يخطب، لا يستطيعون أن يقوموا، ولا يستطيعون أن يركعوا ويسجدوا، ولا يستطيعون أن يقيموا الجماعة ولا أن يذهبوا إلى مكان آخر؛ فلذلك صَلُّوها ظهرًا بالإيماء كما ذكره البخاري مُعَلَّقًا في صحيحه.

ومِن المسائل الخطيرة في هذا الباب: ضرورة مراعاة النصيحة لمجموع الناس أو لأكثرهم، وليس إهدار ذلك مِن أجل مراعاة مصلحة جماعة مِن الجماعات خاصة، وهذا الباب مِن أخطر ما تتعرض له كثير مِن الجماعات في واقعنا المعاصر؛ إذ تبني عملها على رعاية مصلحتها دون النظر إلى مصالح باقي مجتمعها.

وذلك عند جماعات التكفير راجع إلى أنهم يحكمون على المجتمع كله بالكفر، وعند جماعات "التوقف والتبين"، والجماعات التي تسمي نفسها "السلفية الجهادية" -وهي ليستْ سلفية ولا جهادية- وإنما تنتمي إلى "الفكر القُطْبِيّ" الذي يرى معظم المجتمعات مِن "الطبقة المُتَمَيِّعَة" التي لا يشغل نفسه بالحكم عليها؛ فلا يحكم عليها بإسلام ولا بكفر بناءً على وصف المجتمع بأنه مجتمع جاهلي! وأن ذلك تفسيره كدار الحرب أو دار الكفر -وإن لم يحكم على عموم الناس بالكفر-، لكنه لا يعبأ بمصالح هذه "الطبقة المُتَمَيِّعَة" في دينها وأنفسها وأعراضها، وعقولها وأموالها، وليبني المصلحة على مصلحة مُتوَهَّمَة لجماعته فقط؛ إضافة إلى ذلك أنه ليس مِن أهل الموازنة بيْن رتب المصالح المختلفة؛ وإنما قد يفعل الأفعال التي تترتب عليها المضار العظيمة مِن أجل توصيل رسالة -للغرب مثلًا أو للأعداء، أو للموافقين لهم- أنهم موجودون قائمون! أو توصيل رسالة بأن مخالفيهم يسفكون الدماء وينتهكون حقوق الإنسان؛ ومثل هذه ليستْ بمصالح معتبَرة بالموازنة مع حفظ الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال.

ولنضرب على ذلك مثالاً: إذا جاء رجل، وقال: إنه سيقتل عشرة أبرياء مِن أجل قتل رجل يعتقد القاتل أنه كافر، مع أن هذا لم يتم فيه إثبات ارتكاب الكفر الأكبر الناقِل عن المِلَّة على وجهٍ لا يحتمل الظن والاحتمال، والتخمين والاستنتاج ومجرد التحليلات السياسية؛ وإنما على وجه البينات، وبعد أن تُستوفَى الشروط وتنتفي الموانع؛ فإذا لم يقع ذلك وحَكَم على شخصٍ أنه كافر، ثم يريد أن يقتله دون أن يكون له وظيفة بذلك لا مِن أهل العلم ولا مِن الحكام -وهذان الصنفان هم أئمة المسلمين-؛ فإذا كان مُقْدِمًا على مثل هذا ظانًّا أن هذا فيه مصلحة: فهي مصالح مُتوَهَّمة؛ بل مفاسد مجرَّدة، ليس فيها موازنة بيْن المصالح والمفاسد؛ حتى لو افترضنا أنه كافر قطعًا، فهل يجوز قتل المسلمين الأبرياء ليُتوَصَّل بذلك إلى قتل كافرٍ واحد؟!

والمراد من ذلك كله عمل دعاية في العالم أننا نقوم بالمهام التي أعلنا القيام بها وهددنا بها؟! نعوذ بالله! والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاَثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ) (رواه البخاري)، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال: (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (رواه البخاري)؛ وهذا بلا شك مصيبة عظيمة، أن يُقتل أطفال أبرياء ونساء، ورجال مسلمون ومعاهدون لم يرتكبوا ما يوجب قَتْلَهم حتى تثبت هذه الجماعات أنها موجودة على الساحة!

بأي ميزان للمصالح والمفاسد أن يضحى بالمسلمين الأبرياء أو بواحدٍ منهم، أو بمعاهدين قد غلظ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قَتْلِهِم بغير حق، حتى يتم قَتْلُ رجلٍ واحد لو ثبت كُفْرُه؟!

كيف وكُفْرُه لم يثبت، ورِدَّتُه لم تقم عليها البيِّنَة، ولم تستوفَ الشروط ولم تنتفِ الموانع! بل لم يثبت أصلًا ارتكابه لِرِدَّةٍ أو كفرٍ أكبر؟! فأين مراعاة حرمات المسلمين عمومًا؛ فضلًا عن أن يكون بعض المقتولين ذا أمانٍ؛ فلا يصح قتله لمجرد إثبات الوجود؟!

هذا الكلام بعيد جدًّا عن الموازنة الشرعية؛ فليس هناك مصالح معتبرة تتحقق مِن وراء ذلك، بل لا يحدث إلا تشويه صورة الإسلام في العالم، وتشويه صورة الالتزام في المجتمعات المسلمة!

نسأل الله أن يعيذ المسلمين مِن هذا البلاء.