مِن صور الكفاح الفلسطيني (الثورة الفلسطينية عام 1936م)

  • 209

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتُعد ثورة 1936م ذروة النضال الفلسطيني ضد الحركة الصهيونية وبريطانيا قبْل قيام دولة إسرائيل في عام 1948م، حيث جاءت تعبيرًا عن رفض الفلسطينيين للمشروع الصهيوني في فلسطين وللانتداب البريطاني المؤيد له في آنٍ واحد.

وقد امتدت هذه الثورة مِن مايو 1936م إلى صيف 1939م، مطالبة بإيقاف الهجرة اليهودية المتزايدة، وإيقاف التملك اليهودي للأراضي في فلسطين، ومطالبة أيضًا بالاستقلال وجلاء الإنجليز عن فلسطين، وقد قُتل في هذه الثورة آلاف الشهداء مِن الفلسطينيين في مواجهة عنف ووحشية القمع البريطاني للثورة.

اندلاع الثورة:

بدأت الثورة في 8 مايو 1936م استجابة لدعوة الحاج "أمين الحسيني"، الذي كان يشغل منصب مفتي القدس، ويُعد مِن أبرز القيادات الفلسطينية في تلك الفترة.

وجاءت دعوة "الحسيني" للجان الوطنية الفلسطينية بالعصيان المدني والإضراب الشامل في مؤتمر القدس العام في مايو 1936م، فانفجر الوضع، وانطلقت الثورة، وقد دام هذا الإضراب العام ستة أشهر، وأدى إلى الشلل التجاري والاقتصادي، وصاحبته أعمال عنف، حيث دخل الفلسطينيون في حرب مقاومة مع القوات البريطانية، وقد شهدت تلك الفترة قدوم متطوعين مِن الدول العربية المجاورة لمساندة الفلسطينيين في نضالهم.

المواجهة البريطانية الشرسة للثورة:

ما إن بدأت الثورة حتى قابلتها القوات البريطانية بالقوة والعنف، واستخدمت كل وسائل القمع إلى حد تدمير أجزاء مِن مدينة (يافا)؛ انتقامًا مِن الفلسطينيين، واعتقال القوات البريطانية أعيان الفلسطينيين، وإعدام المجاهدين مِن الشباب الفلسطيني على أعواد المشانق في الميادين العامة لإرهاب الأهالي.

ومع تدهور الأوضاع قامتْ بريطانيا بزيادة قواتها في فلسطين، وتوسيع العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين، فقامت الطائرات الحربية البريطانية بضرب المنازل والمباني الفلسطينية بالقنابل، كما قامت قطع مِن البحرية البريطانية بفتح نيران مدافعها الثقيلة مِن البحر على الفلسطينيين، وبلغ مِن وحشية القوات البريطانية تعرضها للنساء الفلسطينيات وسلب حليهن، وإطلاق الرصاص على أطفالهن أمام أعينهن!

صمود الشعب الفلسطيني:

تحمل الفلسطينيون وحشية القمع البريطاني ببسالةٍ منقطعة النظير؛ إذ تجاوز عدد القتلى مِن الفلسطينيين في النصف الثاني مِن عام 1936م وحده ألف شخص وفقًا لتقرير الملكية البريطانية.

وقد شاركت النساء والفتيات الفلسطينيات في الثورة حيث كن يمددن الرجال بالعتاد والذخيرة، والمأكل والملبس خلال المواجهات الدموية التي صاحبت الثورة، مما كان له أثره الكبير في مواصلة الرجال صمودهم في مواجهة العدو رغم الفارق الكبير في الإمكانيات.

لقد كانت الفلسطينيات يحمسن الرجال ويشجعهن على مواصلة النضال ضد البريطانيين واليهود على السواء، ويقابلن أنباء استشهاد رجالهن وأبنائهن بالزغاريد، ويرفضن إقامة أي مظاهر للعزاء مِن أجلهم؛ لكونهم شهداءَ أحياءً عند الله -تعالى-.

وقد تسببت أخبار الثورة والوحشية التي قُوبلت بها في إثارة الشعوب العربية والإسلامية؛ فاضطرت بعض الحكومات العربية إلي إظهار الاحتجاج تحت ضغط غضب شعوبها على الحكومة البريطانية.

التحايل البريطاني لإيقاف الثورة:

للحد مِن الثورة وإيقافها قررتْ بريطانيا إرسال لجنة برئاسة اللورد (روبرت بل) بدعوى معاينة الأوضاع في فلسطين والتحقيق فيها، وبذلت بريطانيا جهودها لدى الحكومات العربية للتوسط والضغط على القيادات الفلسطينية لوقف الإضراب، وقبول الحوار مع اللجنة الملكية التي عينتها بريطانيا للتحقيق في الموضوع.

وقد نجحت هذه المساعي البريطانية؛ إذ استجابت القيادات الفلسطينية لضغوط الحكام العرب فتوقف الإضراب في 11 أكتوبر 1936م، وخفت حدة العنف لمدة ثلاثة أشهر في انتظار نتائج اللجنة الملكية.

إعلان نتائج لجنة ( بل):

أبدت اللجنة شيئًا مِن التفهم لتطلعات الفلسطينيين في الاستقلال، ومخاوفهم مِن تزايد الهجرة اليهودية لفلسطين وتملك الأراضي فيها، لكنها لم تغفل في حساباتها المطامع الصهيونية في فلسطين، بل وضعتها في حساباتها، وأشارتْ إلى اعتبار الفلسطينيين بريطانيا حليفة لليهود وعدوة للعرب، حيث كانت الهجمات الفلسطينية تستهدف اليهود فقط في ثورات 1920م و1921م و1929م، ثم صارت تستهدف الحكومة البريطانية مع اليهود منذ عام 1933م في ظل رفض الفلسطينيين للادعاء بأن السلطات البريطانية في لندن أو القدس تحاول الحفاظ على التوازن في العلاقات بيْن العرب واليهود، إذ باتت بريطانيا لدى الفلسطينيين حليفة بالكلية لليهود؛ وعليه فالانتداب ليس إلا وسيلة لخدمة الإمبريالية البريطانية في إقامة وطن لليهود تحت غطاء الشعور الإنساني تجاه اليهود.

وقد بنتِ اللجنة تصورها لحل القضية الفلسطينية على أساس وجود نزاع بيْن مجتمعين قوميين متناقضتين على أرض بلد واحدة: مجتمع عربي آسيوي فيه حوالي المليون نسمة، له دينه ولغته وثقافته وأنماط سلوكه، ويتطلع إلى الاستقلال، وإنهاء الانتداب. ومجتمع يهودي أوروبي إجمالًا، يضم نحو 400 ألف يهودي، له دينه ولغته وثقافته وأنماط سلوكه، ويتطلع إلى إقامة وطنٍ له في فلسطين!

وعليه زعمت اللجنة أنه لا حل للنزاع إلا بإقامة دولتين: عربية ويهودية، فجاء في التقرير: "فسيحصل العرب بموجبها على استقلالهم الوطني، مما يتيح لهم العمل على قدم المساواة مع سائر البلدان المجاورة مِن أجل قضية الوحدة والتقدم العربيين، وهكذا يتم تجنيبهم كل خوف مِن الهيمنة اليهودية... وفي موازاة ذلك يضمن التقسيم إقامة الوطن القومي لليهود، ويلغي كل احتمالات إخضاع اليهود للهيمنة العربية في المستقبل، ويتيح ذلك تحويل الوطن القومي لليهود إلى دولة يهودية!".

فتجاهلت اللجنة أن العرب هم أصحاب الأرض، وهم الأغلبية السكانية، وتحت أيديهم أكثر أراضي فلسطين، وأن لهم الحق في الاستقلال، وتقرير المصير، وحكم أنفسهم بأنفسهم؛ إذ أن هذه هي النهاية الطبيعية لفترة الانتداب البريطاني على فلسطين، وبالتالي فللفلسطينيين قبول أو رفض الهجرة اليهودية، وعلى مَن جاء لفلسطين مِن اليهود أن يكونوا خاضعين لحكم الفلسطينيين: كالنصارى واليهود في سائر البلدان العربية الأخرى المحيطة بفلسطين، والتي نالت استقلالها ويعيش فيها نصارى أو يهود.

ولم تكتفِ اللجنة بذلك، بل رأت أن تعطي للدولة المقترحة -لهؤلاء اليهود الأغراب القادمين مِن شتات الأرض كزرعٍ غريبٍ عن المنطقة، أو كشوكةٍ مغروزةٍ في الجسد العربي لتؤرقه وتؤلمه- ما يقارب ثُلُث أرض فلسطين! مع أن ملكية اليهود وقتها كانت لا تزيد عن 5% مِن مساحة أرض فلسطين، وجعلت هذه الدولة اليهودية المقترحة في مناطق أكثر سكانها وملاك أراضيها مِن العرب الفلسطينيين ويعدون بآلاف المئات، في الجليل وشمال فلسطين والسهل الساحلي مِن الحدود اللبنانية إلى جنوب يافا، وهم بالطبع لن يقبلوا أن يكونوا جزءًا مِن الدولة اليهودية المقترحة عند إقامتها؛ لذا أشار التقرير إلى احتمالية نزوحهم عن مدنهم وقراهم، أو إمكانية إبعادهم إذا لزم الأمر إلى حيث الدولة العربية المقترحة على باقي أرض فلسطين، كما اقترحت اللجنة ضم الضفة الغربية لنهر الأردن إلى شرق الأردن (المملكة الأردنية حاليًا) تحت حكم الأمير عبد الله.

وكان الغرض مِن هذا الاقتراح:

1- إغراء الأمير عبد الله -الذي يحكم شرق الأردن- بقبول اقتراحات اللجنة، والمساهمة في قبول العرب لها.

2- إيجاد مبرر لإعطاء اليهود جزء مِن فلسطين.

نتائج إعلان تقرير اللجنة:

تم الإعلان عن توصيات لجنة (بل) في يوليو 1937م، و كان مِن الطبيعي رفض العرب الفلسطينيين لمقترحات اللجنة؛ لكونها تقتطع ثلث أرض فلسطين وتقدمه لليهود ليقيموا عليه دولة يهودية لهم، لكن الغريب رفض اليهود كذلك لها لكونها لا تحقق أطماعهم في إقامة دولة لهم على كامل أرض فلسطين، وبالتالي عادت الثورة الفلسطينية لتستكمل ثورتها مِن جديد، والتي استمرت حتى صيف 1939م.

تمادي بريطانيا في القوة في مواجهة الثورة:

كانت لبريطانيا في فلسطين لواءين مشاة فتم تدعيمهما بفوجين مِن المشاة، وبسربين مِن سلاح الطيران الملكي، ووحدة مِن المدرعات والخيالة، وبسفينة حربية، وبلغ عدد القوات البريطانية في سبتمبر 1938م إلى نحو 20 ألف جندي بريطاني، معهم 2930 شرطيًّا إضافيًّا خلال نفس العام، فكان الوضع أشبه بإعادة احتلال فلسطين عسكريًّا مِن جديدٍ!

وقد عيَّنتْ بريطانيا الجنرال (ويل) قائدًا للقوات البريطانية في فلسطين، و(ويل) هو القائد الذي كان يقود الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى.

وأمام تصاعد الثورة الفلسطينية زادت بريطانيا مِن إجراءاتها القمعية التعسفية حيث:

1- أعلنت حل وحظر كل الأحزاب الفلسطينية.

2- اعتقلت أعدادًا كبيرة مِن الزعماء الفلسطينيين, وألقت القبض على الآلاف مِن الفلسطينيين.

3- استخدمت الطائرات والدبابات ضد الفلسطينيين العزل؛ لإخماد الثورة بالقوة.

4 - نسفت أحياءً فلسطينية بالكامل في بعض المدن والقرى؛ انتقامًا مِن أهلها!

5- أصدرت أحكامًا عسكرية بإعدام العشرات مِن الفلسطينيين شنقًا.

لقد سقط أكثر مِن ألف فلسطيني برصاص الإنجليز في عام 1938م، وتم إعدام 54 فلسطينيًّا شنقًا، وسقط أكثر مِن 1200 فلسطيني في عام 1939م، وأعدم 55 فلسطينيًّا آخرين شنقًا، كما جُرح الآلاف مِن الفلسطينيين خلال هذين العامين.

تطوير المنظمات العسكرية اليهودية في فلسطين:

في مواجهة الثورة قامتْ بريطانيا بتدعيم وتطوير المنظمات العسكرية الصهيونية في فلسطين، فمِن ذلك:

1- توثيق التعاون مع منظمة (الهاجاناة)، والتي كانت تعد الجيش السري للوكالة الصهيونية.

2- تدريب وتسليح فرقة عسكرية عرفت باسم: (شرطة المستعمرات الصهيونية)، والتي بلغ عددها عام 1939م حوالي 14 ألف يهودي.

3- إعداد وتدريب قوة بريطانية يهودية عُرفت باسم: (فرقة كوماندوز الليل الخاصة) لتقوم بعمليات اغتيالات وإرهاب للأهالي في القرى الفلسطينية، فكانت هذه الفرقة تقوم بنفس الدور الذي تقوم به المنظمتان الصهيونيتان الإرهابيتان (أراجون زفاي ليومي) ومنظمة (شترن) ضد الفلسطينيين.

أي أن بريطانيا شجَّعت الإرهاب الصهيوني، وزودته بالسلاح، وساهمت في تدريبه، وتغاضت عن العمليات الإرهابية التي ينفذها ضد الأهالي الفلسطينيين العزل!

المساندة الغربية ليهود فلسطين:

خلال الثورة الفلسطينية ومع سقوط كثيرٍ مِن القتلى اليهود واستنجاد اليهود بزعمائهم في الدول الأوروبية الغربية وأمريكا؛ انهالت الأسلحة والمساعدات المادية بجميع أشكالها، وجاءت أعدادٌ كبيرة مِن اليهود الروس لمساندة يهود فلسطين؛ وعليه تم إنشاء المزيد مِن المستعمرات القوية المحصنة، والربط بينها بشبكاتٍ مِن الطرق، وملء مخازن فيها بالسلاح والذخيرة والتموين.

وقد بلغ عدد اليهود المسلحين في تلك الفترة نحو 62 ألف مسلح، إلى جانب العصابات الإرهابية التي زاد أفرادها عن 6 آلاف مسلح، وعليه زادت عمليات تحرش الصهاينة اليهود بالأهالي الفلسطينيين العزل، وإطلاق الرصاص على تجمعاتهم، ونسف منازلهم.

ومِن أمثلة ذلك:

- تفجير سيارتين في سوق حيفا في 6-7-1938م؛ مما أدى إلى مقتل 21 مواطنًا، و إصابة 52 آخرين.

- إلقاء قنبلة يدوية في سوق فلسطيني للخضار في 14- 7-1938م، أسفر عن مقتل 12 فردًا، إلى جانب عددٍ مِن المصابين.

- تفجير قنبلة يدوية أمام أحد المساجد في مدينة القدس أثناء خروج المصلين منه في 15-7-1938م، أسفر عن مقتل 10 أفراد، وإصابة 30 آخرين.

- تفجير سيارة ملغومة في 26-8-1938م، أسفر عن مقتل 34 شخصًا، وجرح 35 آخرين.

تغير سياسة بريطانيا في فلسطين:

وأمام استبسال الفلسطينيين، وصمودهم، وتحملهم كل ما قامت به القوات البريطانية والعصابات اليهودية، ومع تدهور أوضاع بريطانيا في فلسطين بصورةٍ غير مسبوقة، ومع ازدياد التعاطف العربي مع الشعب الفلسطيني، ومع بوادر الحرب العالمية الثانية، رأت بريطانيا أن عليها تهدئة الأوضاع في فلسطين والمنطقة العربية، بتغيير سياستها في فلسطين لأسبابٍ عديدةٍ، منها:

1- حاجتها إلى قناة السويس ذات الأهمية الإستراتيجية.

2- أهمية النفط العربي حال الدخول في حروب عسكرية بدت متوقعة.

3- تهدئة المشاعر العربية بإبداء التفهم لوجهة النظر العربية في فلسطين، مما يقطع الطريق على دخول ألمانيا في المنطقة، وإيجاد حلفاء لها فيها.

وسيرًا في هذا الاتجاه:

- أرسلت بريطانيا لجنة تحقيق جديدة -لجنة (وودهيد)- إلى فلسطين؛ للنظر في مدى قابلية تنفيذ اقتراح التقسيم الوارد في تقرير لجنة (بل) السابقة، وقد توصلت لجنة (وودهيد) الجديدة إلى تعذر تنفيذ اقتراح التقسيم عمليًّا.

- أعلنت الحكومة البريطانية تخليها عن اقتراح التقسيم.

- دعت بريطانيا الأطراف المعنية للمشاركة في مؤتمرٍ يُعقد في لندن لمناقشة القضية الفلسطينية، ومع رفض الفلسطينيين للدخول في حوارٍ مباشرٍ مع الوكالة اليهودية اتخذ المؤتمر شكل مجموعتين فرعيتين: بريطانية - عربية، وبريطانية - يهودية، أي حوار غير مباشر بيْن الطرفين، ولكن المؤتمر انتهى بالفشل أمام إصرار الفلسطينيين على استقلال فلسطين، مثلها مثل باقي الدول العربية الموضوعة تحت الانتداب، بينما تمسك اليهود بوعد (بلفور) وما تلاه.

الكتاب الأبيض في 1939م:

أعقب ذلك إصدار الحكومة البريطانية لكتابٍ أبيض جديدٍ في مايو 1939م، يتضمن السياسة البريطانية الجديدة في فلسطين، والذي يتضمن تفهمًا لم تبده بريطانيا مِن قبْل لوجهة النظر العربية حول قضية فلسطين.

حيث أعلنت:

1- إنه ليس في سياستها الجديدة تحويل فلسطين إلى دولةٍ يهودية، أو تقسيمها بيْن العرب واليهود.

2- إنها ستنهي انتدابها رسميًّا على فلسطين في عام 1949م.

3- إنها ستعمل حتى انتهاء الانتداب -بعد عشر سنوات- على إقامة دولة فلسطين المستقلة، التي تكون فيها السلطة مشاركة بيْن العرب واليهود بما يحفظ مصالح الطرفين.

4- الحد مِن الهجرة اليهودية إلى فلسطين، حيث ستسمح بهجرة 75 ألف يهودي كحد أقصى خلال خمس سنوات، تخضع بعدها الهجرة اليهودية للموافقة العربية.

5- الحد مِن تملك اليهود في فلسطين، وحصره في مناطق معينة.

وهكذا أبدت الحكومة البريطانية تحولًا كبيرًا في سياستها في فلسطين، ولكنه كان تحولًا متأخرًا جدًّا؛ إذ ساهمت السياسة السابقة للحكومة البريطانية منذ بداية الانتداب وحتى ظهور الكتاب الأبيض في عام 1939م في وجود وطن بالفعل لليهود في فلسطين.

فقبل الانتداب كان عدد اليهود في فلسطين نحو 8 % مِن سكان فلسطين، وغالبيتهم مِن اليهود العرب، وعند صدور الكتاب الأبيض صار عددهم قرابة النصف مليون، أي نحو ثلث سكان فلسطين.

وقد شكَّل هؤلاء اليهود كيانًا جديدًا داخل فلسطين، يتميز بأمور، منها:

1- إنه مجتمع أوروبي، أكثره يهود أوروبيون.

2- إنه متفوق تكنولوجيًّا وتنظيميًّا وإداريًّا بحكم انتمائه السابق للحضارة الأوروبية الصناعية المتقدمة.

3 - إنه يمتلك مؤسساته العسكرية المدربة والمجهزة.

4 - إنه يتمتع بعلاقاتٍ دولية مع الغرب، خاصة بريطانيا وأمريكا.

5 - إنه متفوق ماليًّا بما يصله مِن دعمٍ خارجي متواصل.

وبعد هذا يبقى السؤال الذي يحتاج إلى إجابةٍ واضحة: هل هذا التغير في السياسة البريطانية تغيرًا حقيقيًّا نتيجة الشعور بالخطأ الذي وقعتْ فيه بريطانيا أم أنه تغير تكتيكي تسترضي به بريطانيا المنطقة العربية؛ طلبًا لاستقرار المنطقة على مشارف الحرب العالمية الثانية ومواجهة النارية؟!

توقف الثورة:

وبضغطٍ مِن بريطانيا أشار حكام وقادة العرب على زعماء الحركة الفلسطينية بوقف العصيان المدني خوفًا مِن إعاقة جهود الحكومة البريطانية في مواجهة ألمانيا النازية، وتمشيًا مع وقوف العرب إلى جانب بريطانيا في حربها ضد النازية.

وقد استجاب زعماء الحركة الوطنية الفلسطينية لهذا المطلب، ولزموا جانب الصمت، بينما سعى اليهود إلى استغلال الأحداث مِن جديدٍ لتحقيق أطماعهم مستفيدين مِن صعود النازية في أوروبا مِن جهةٍ، ومِن تزايد الدور الأمريكي في الساحة الدولية خلال الحرب العالمية الثانية مِن جهةٍ أخرى.

مِن نتائج الثورة الفلسطينية في 1939م:

1- تغير السياسة البريطانية وإعادة حساباتها مِن جديدٍ في فلسطين بإصدار الكتاب الأبيض في مايو 1939م.

2- ازدياد التعاطف العربي مع الشعب الفلسطيني بصورةٍ لم تكن مِن قبْل، وشارك متطوعون مِن الدول العربية المجاورة في الثورة الفلسطينية.

3- اتجاه أنظار اليهود إلى أمريكا كحليفٍ جديدٍ لهم بعد ما طرأ على السياسة البريطانية في فلسطين مِن تغيير.