عِبَرٌ مِن التاريخ... (إذا أراد الله -سبحانه- شيئًا لم يقْدِر أحدٌ على منعه!)

  • 357

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن في التاريخ حوادث جامعة وتجارب نافعة، وبه تُعلم تجارب الأمم وتعاقب الهمم، وبمعرفة حوادث الزمان تحدث العبرة لليقظان؛ لما يحويه التاريخ مِن المواعظ والإنذار بما جرى في هذه الدار.

ومِن هذه المواقف التي سبقتْ ومِن الأحداث التي وقعتْ:

ما حدث في مجلس المنصور بن أبي عامر في فترة حكمه للأندلس، وكان هذا بحضور أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب أبي عمر الوزير، والد الفقيه المشهور أبي محمد بن حزم، فقد كان أبو عمر بن حزم وزيرًا في الدولة العامرية.

نقل الحميدي في كتابه "جذوة المقتبس" (ص183) وعنه ابن خلكان في "وفيات الأعيان" (3/ 328): "أن الوزير المذكور كان جالسًا بيْن يدي مخدومه المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر في بعض مجالسه للعامة، فرفعتْ إليه رقعة استعطاف لأم رجل مسجون كان المنصور بن أبي عامر اعتقله حنقًا عليه -أي غيظًا منه-؛ لجُرم استعظمه منه، فلما قرأها اشتد غضبه، وقال: ذكَّرَتْني والله به، وأخذ القلم وأراد أن يكتب: يصلب، فكتب: يُطْلَق، ورمى الورقة إلى وزيره المذكور، وأخذ الوزير القلم وتناول الورقة وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشرطة، فقال له المنصور بن أبي عامر: ما هذا الذي تكتب؟ قال: بإطلاق فلان، فَحَرِدَ (أي غضِب)، وقال: مَن أمر بهذا؟ فناوله التوقيع، فلما رآه قال: وهمتُ، والله ليصلبن، ثم خط على التوقيع، وأراد أن يكتب: يصلب، فكتب: يُطْلَق، فأخذ الوزير الورقة، وأراد أن يكتب إلى الوالي بالإطلاق، فنظر إليه المنصور وغضب أشد مِن الأول، وقال: مَن أمر بهذا؟ فناوله التوقيع، فرأى خطه، فخط عليه، وأراد أن يكتب: يصلب، فكتب: يُطْلَق، وأخذ الوزير التوقيع وشرع في الكتابة إلى الوالي، فرآه المنصور فأنكر أكثر مِن المرتين الأوليين، فأراه خطه بالإطلاق، فلما رآه عجب مِن ذلك، وقال: نعم يطلق على رغمي، فمَن أراد الله -سبحانه- إطلاقه لا أقدر أنا على منعه!".

فانظر إلى هذا الملِك أراد أن يكتب: "يُصلب"، فلم يمكنه الله -عز وجل- مِن ذلك، مع حرصه في فعل ذلك ثلاث مرات، وهو لا يستطيع أن يكتب ما يريد! حتى انتبه في المرة الأخيرة فأمر بإخراجه، وقال: "مَن أراد الله -سبحانه- إطلاقه لا أقدر أنا على منعه!"، وصدق الله -تعالى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (الأنفال:24).

وانظر إلى حال هذه الأم وإلى فعلها، وكيف كانت العاقبة! ولعل أم هذا الرجل توجهت إلى الله -عز وجل- بالدعاء بإطلاق ولدها فاستجاب لها.

وانظر كيف جاء الفرج بعد هذه الشدة؟!

فإن الأم أرادت استعطاف هذا الملك؛ فازداد الملك غضبًا بعد أن نسي شأن ولدها، وأراد صلبه، لكن كانت المنحة في طيات هذه المحنة.

وكم في التاريخ مِن عِبَرٍ؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار.