عِبَرٌ مِن التاريخ (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)

  • 356

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن التاريخ قد حفظ لنا أخبار الموحدين وأخبار الكافرين، ونقل لنا عاقبة كل فريق منهم.

ومِن جملة مَن كَفَر: الحاكم العبيدي أبو علي المنصور الملقب: "الحاكم بأمر الله!"، وقد حدث في حضرته موقف عجيب، ذكره السِّلَفي في "معجم السفر" (ص145)، وابن خلكان في "وفيات الأعيان" (5/ 295)، وابن حجة الحموي في "ثمرات الأوراق" (ص36).

"فقد ادعى الحاكم الألوهية، وجمع الناس في مجلس عام، وكان ذلك في فصل الصيف والذباب يتراكم عليه، والخدام تدفعه ولا يندفع! فقرأ بعض الحاضرين قوله -تعالى-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65)، والقارئ في أثناء ذلك يشير إلى الحاكم!

وكان مِن قرَّاء المجلس آخَر يُعرف بابن المشجَّر، وكان حسن الصوت؛ فرفع صوته بقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ . مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الحج:73-74)؛ فاضطربوا لعظم وقوع هذه الآية الشريفة في حكاية الحال، حتى كأن الله أنزلها تكذيبًا للحاكم فيما ادعاه!

وارتجَّ المجلس واصفرَّ وجه الحاكم!

وقيل: سقط الحاكم مِن فوق سريره خوفًا مِن أن يُقتل، وولى هاربًا، ثم أمر لابن المشجَّر بمائة دينار ولم يأمر للقارئ الأول بشيءٍ!

ثم إن بعض أصحاب ابن المشجَّر قال له: أنت تعرف خلق الحاكم، وكثرة استحالاته، وما نأمن أن يحقد عليك، وأنه لا يؤاخذك في هذا الوقت ثم يؤاخذك بعد هذا فتتأذى معه، ومِن المصلحة عندي أن تغيب عنه، فتجهز ابن المشجَّر للحج، وركب في البحر فغرق. وقيل: إن الحاكم أخذ في استجلاب ذلك الرجل إلى أن اطمأن إليه فجهزه رسولًا إلى بعض الجزائر وأمر بإغراقه ، فرآه صاحبه في النوم، فسأله عن حاله، فقال: ما قصر الرُّبَّان -يعني قائد السفينة- معنا، أرسى بنا على باب الجنة!".

فانظر إلى هذا الحاكم... كيف أذله الله في هذا الموقف؛ فسلَّط عليه الذباب، ولم يستطع دفعه مع ما هو فيه مِن الملك والخدم؟! (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) (الحج:18).

وتأمل حال هذا القارئ الذي حرَّف الكلم عن مواضعه، ورب قارئ للقرآن غير معظـِّمٍ له! لكن قام القارئ الثاني صادعًا بالحق، ولم يخف في الله لومة لائم، وهذه هي أخلاق أهل القرآن العاملين به، وقد مات هذا القارئ وهو في طريقه إلى الحج، ولعله مِن حُسن الخاتمة، ورؤيت له هذه الرؤيا التي لا نجزم بما فيها، لكن يُرجى له ذلك.

وكم في التاريخ مِن عَبَرٍ؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار!