تحري اليقظة... تعليقات على مقال: (آنَ أوَانُ اليَقَظَة)

  • 202

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد اختلفتْ مشارب القراء تجاه مقال فضيلة الشيخ ياسر برهامي: (آنَ أوَانُ اليَقَظَة)، فقام كثيرٌ مِن أبناء "الدعوة السلفية" بنشره ثقة منهم في الشيخ -حفظه الله-، بل قام بعض أبناء الدعوة بنشر بعض الفوائد العلمية والمنهجية المستفادة منه، في حين اعترض بعض مَن يخالِف قرارات الدعوة على هذا المقال؛ فنشر بعض أبناء الدعوة سابقًا "ثم المعترضين على قراراتها حاليًا" نقدًا له على صفحته على "الفيس بوك"، وقام آخرون مِن المعترضين بتأييد هذا النقد أيضًا، واختلفتْ عبارات هؤلاء، وربما ضمَّنوا اعتراضهم بعض الأمور العلمية التي تحتاج إلى بيانٍ.

وفيما يلي عدة نصائح لهذه الطوائف كلها؛ مِن ناشري المقال، ومستخلصي الفوائد منه، والمعترضين عليه.

أولًا: قواعد عامة:

1- العلم هو معرفة الحق بدليله: قال أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله-: "حد العلم عند العلماء والمتكلمين في هذا المعنى هو ما استيقنتَه وتبينتَه، وكل مَن استيقن شيئًا وتبينه فقد علمه، وعلى هذا مَن لم يستيقن الشيء وقال به تقليدًا فلم يعلمه، والتقليد عند العلماء غير الاتباع؛ لأن الاتباع هو تتبع القائل على ما بان لك مِن فضل قوله وصحة مذهبه، والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرف وجه القول ولا معناه، وتأبى مَن سواه، أو أن يتبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه وأنت قد بان لك فساد قوله، وهذا محرم القول به في دين الله -سبحانه وتعالى-" (جامع بيان العلم وفضله 2/ 787).

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وقال أبو عمر وغيره مِن العلماء: أجمع الناسُ على أن المقلِّد ليس معدودًا مِن أهل العلم، وأن العلم معرفَةُ الحق بدليله. وهذا كما قال أبو عمر -رحمه اللَّه تعالى-؛ فإن الناس لا يختلفون أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد" (إعلام الموقعين 2/ 11).

وفي هذا وغيره تنبيه للمسلمين عمومًا "ولأبناء الدعوة السلفية خصوصًا" أن يقيسوا الأمور بمقياس الشرع، وألا يكون اتباعهم لمشايخهم اتباعًا عاطفيًّا ينطلق مِن قول الشاعر:

إذا قالت حذام فصدقوها                  فإن القول ما قالت حذام!

بل ينبغي أن نحرص على معرفة القول بدليله، وهذا ما ربَّى عليه الشيخ ياسر تلاميذه، وما حرص عليه مشايخ الدعوة، بل علماء الأمة قديمًا وحديثًا، والردود العاطفية على مَن يخالفك تضر أكثر مما تنفع.

ومِن هذا المنطلق أيضًا أتوجَّه بالخطاب للمخالفين لما في هذا المقال وأقول: إن الاعتراض على كلام الشيخ ينبغي أن يكون بالحجة والبرهان، ولا ينبغي أن نجعل الخلفية النفسية هي المرجع الأساس للنقاش والاعتراض، فينبغي للمنصف إذا أراد أن ينقد أن يستبعد أثناء نقده الأثر النفسي والجانب العاطفي ليحقق الغرض مِن مدى موافقة الكلام للشرع مِن عدمها، وأن يكون الدافع الحقيقي هو العمل بقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) (رواه مسلم).

2- إما بينة وإما ادعاء: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ) (متفق عليه).

وصدق القائل:

والدعاوى ما لم يقيموا عليها           بــيِّــنــات أبــنــاؤها أدعــيــاء

فينبغي لمَن أثبت شيئًا أن يثبته ببينةٍ، ومَن نفى أمرًا أن ينفيه بيينةٍ، ولا ينبغي للعاقل فضلًا عن المسلم أن يَقبل قول أحدٍ بدعوى ذكرها حتى يقيم له على ذلك بينة؛ وإلا فالأصل بقاء ما كان على ما كان.

3- مراعاة مدلولات الألفاظ وكيفية التعامل عند اختلافها: لا يخفى على المطلع أن مِن الألفاظ ما يكون عامًّا، ومنها ما يكون خاصًّا، ومنها ما يكون مطلقًا، ومنها ما يكون مقيدًا، وإذا كان العلماء قد راعوا مدلولات الألفاظ في نصوص الكتاب والسُّنة، فقد راعوه أيضًا في أقوال عموم الناس، وكلام أهل العلم جدير بأن يُراعى فيه ذلك، وانظر إلى مذهب الإمام أحمد -على سبيل المثال-.

قال ابن بدران -رحمه الله-: "لا يخفاك أن الأصحاب أخذوا مذهب أحمد مِن أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك، فكانوا إذا وجدوا عن الإمام في مسألة قولين عدلوا أولًا إلى الجمع بينهما بطريقةٍ مِن طرق الأصول؛ إما بحمل عام على خاص أو مطلق على مقيد، فإذا أمكن ذلك كان القولان مذهبه، وإن تعذر الجمع بينهما وعُلم التاريخ؛ فاختلف الأصحاب فقال قوم: الثاني مذهبه. وقال آخرون: الثاني والأول. وقالت طائفة: الأول ولو رجع عنه. وصحح القول الأول الشيخ علاء الدين المرداوي في كتابه تصحيح الفروع وتبع غيره في ذلك، فإن جهل التاريخ فمذهبه أقرب الأقوال مِن الأدلة أو قواعد مذهبه، ويخص عام كلامه بخاصه في مسألة واحدة" (المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ص126).

وبمطالعة أبواب الأيمان والنذور أو أبواب الوقف وغيرها في كتب الفقه المختلفة تقف على أمثلةٍ لمراعاة دلالة ألفاظ الناس، وما يترتب عليها مِن أحكام، فإذا كان هذا مع عوام الناس لا سيما أهل العلم، فينبغي لمَن وقف على عبارةٍ حسبها في كلام الشيخ عامة أو مطلقة أو مجملة ينبغي أن يُستصحب سائر كلامه في كتبه ومقالاته ومحاضرته، والأولى مِن ذلك الاستفسار المباشر منه لمَن أراد أن يستوضح قبْل أن يُتهم أو يطعن أو يهمز أو يلمز.

ثانيًا: قراءة لبعض ما ذُكر في المقال:

1- تناول الشيخ الحديث عن تكاتف أبناء الدعوة على قرارٍ مِن قراراتها، فإذا اعترض أحدٌ على أصل القرار؛ فذاك شأنه هو، وأما حيثيات هذا القرار فمذكورة في مقالاتٍ أخرى، ومحاضراتٍ مختلفة.

2- أثنى الشيخ على عدم التفات أبناء الدعوة إلى ما يقوله المعترضون، فمَن يرغب في تغيير مسار هذا الوضع الذي عليه الدعوة، ويعمل على زعزعة ثقة أبنائها في مشايخهم؛ فالله حسيبه وهو أعلم بنيته.

3- ثم تساءل الشيخ:

"أَيُّ قضيةٍ مِن قضايا الدين .... قد تنازلنا عنها؟!

وَأَيُّ قضايا الإسلام .... قد تخلينا عنها؟!

وَأَيُّ قضايا الإحسان ..... قد هدمناها أو بعناها؟!".

وأترك لكل مخالف أو معارض الإجابة عن هذه الأسئلة بعلمٍ وبينةٍ وإنصافٍ، لا بعاطفةٍ أو تخرصٍ أو سوء ظن، أو بنقلٍ عن مجهولٍ نحو: (حدثني مَن لا أذكر اسمه)، أو (عندي خبر موثق)، أو (حدثني الثقة)؛ فهذا ونحوه في عداد النقل عن المجاهيل كما هو مقرر في علم مصطلح الحديث! فكيف إذا كان النقل عن صفحات التواصل الاجتماعي التي كثير مِن أصحابها مجهولون العين والحال؟!

4- ذكر الشيخ  بعض استدلالات مخالفي الدعوة فيما يتعلق بشأن بعض الاعتصامات التي وقعتْ منذ سنواتٍ، ثم رد على هذه الاستدلالات مشيرًا إلى معاني النصوص الشرعية التي استدل المخالف بها، فمَن كان يرى أن استدلال هؤلاء كان صوابًا، وأن ما ذكره الشيخ ليس بصحيحٍ؛ فليأتِ بأثارةٍ مِن علمٍ تدل على كلامه، وأنصحه أن يقرأ هذه الفقرة مِن كلام الشيخ بتأنٍ وتمهلٍ مستحضرًا منهج أهل السُّنة والجماعة في مسائل الإيمان والكفر، ومسائل الجهاد، وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحوها.

4- عمل الشيخ على ترسيخ مبدأ مراعاة القدرة والعجز، ومراعاة القوة والضعف عند التعامل مع المنكرات مع ذِكر أمثلةٍ مِن تاريخ الأمة، ومواقف بعض علمائها في ظروفٍ قد تؤدي إلى الصدام مع السلطة، وأنهم فعلوا ذلك حرصًا على دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم وحُرُمَاتهم، ولم يكن هذا ركونًا منهم إلى الظالمين؛ فهل سيغمض المخالف للدعوة عينيه عن هذا التوثيق العلمي أم سيتأوله أم ماذا سيصنع؟!

5- قال الشيخ:

"والحقيقة التي لا شك فيها أن المنهج السلفي بريءٌ مِن هذه البدع، وأن ما يسمونه: الصف الإسلامي إنما كانوا يعنون به: الصف الإخواني ومَن يوافقهم مِن التيار القطبي الصدامي، وأن محاولاتهم المتكررة لإنشاء ما يسمَّى بـالتيار السلفي العام لم يكن إلا محاولة لتأميم التيار السلفي، وتمكين ذوي المشارب القطبية مِن قيادته، وجعله تابعًا للإخوان بإرهاب كل مَن يخالِف أو ينقد أو ينصح بأنه بهذا قد خرج عن الصف الإسلامي!".

والسؤال: هل يعلم المخالفون أن قيادات جماعة الإخوان -فرَّج الله كربهم- عملوا على تفتيت الاتجاه السلفي؟!

وهل غاب عنهم أن "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح" أنشئت لجمع كلمة اتجاهات أبناء الصحوة في مصر، ثم اتضح سيطرة الإخوان عليها وعملهم على أن يخرج القرار على ما يريدون باسم هذه الهيئة؟!

وهل يعلم المخالفون أن قيادات جماعة الإخوان كان يعجبهم انشقاق مَن انشق مِن "حزب النور" ثم قاموا بتأسيس حزبٍ سلفيٍ جديدٍ؟!

وهل يعلم المخالفون أن قيادات جماعة الإخوان -فرَّج الله كربهم- حاولوا جاهدين إثناء الدعوة عن الدخول إلى مجلس الشعب ومجلس الشورى السابقين، وكانوا يعتبرون السلفيين متشددين؟!

وهل يعلم المخالفون أن قيادات جماعة الإخوان -فرج الله كربهم- جمعوا كثيرًا مِن الجماعات الأخرى واستعملوهم في الصدام مع السلطة؟!

وهل يعلم المخالفون أن جماعة الإخوان تعتبر نفسها "الجماعة الأم" وأن على الجميع مِن أبناء الصحوة أن يسير خلفهم؟!

يبدو أن تلاحق الأحداث أنستْ بعض إخواننا هذه الأمور وغيرها!

6- حذر الشيخ "جميع الدعاة السلفيين المعتقدين لعقيدة السلف في كافة الأبواب "لا سيما مسائل الإيمان والكفر" مِن الانخداع أو الاستجابة لهذا الإرهاب الفكري".

وفي ذلك إثبات لوجود دعاة سلفيين ليسوا مِن أبناء الدعوة السلفية، لكنه عاب عليهم أن (تأخرت استجابة الكثيرين حتى رأوا جمعًا مِن تلاميذهم وإخوانهم يُستدرجون إلى منزلق التكفير والتفجير الذي طالما حذر منه السلفيون!).

وفي هذا رد واضح وصريح على مَن زعم أن الشيخ يحصر السلفية فيه وفي أبناء الدعوة!

بل قال بعضهم مشيرًا إلى هذا المقال: "ما كتمته لثلاث سنوات وسمحتْ باطلاع العقلاء عليه مؤخرًا قد أظهره صاحبه أمس علانية بطريقةٍ ظاهرةٍ وكاشفة وواضحة دون أي احتمال لتأويل أو تفسير؛ وهو بمثابة إعلان الحرب على كل مَن لم يكن تابعًا له، وهو تجريف وتحريف للسلفية مطلقًا وادعاء أنه هو (فقط) قائد الطائفة الناجية، وما عداه مِن أهل العلم فهو مِن أهل البدع والأهواء، وإما إخواني أو قطبي أو سروري أو تكفيري!".

فمنطوق كلام الشيخ ومفهومه يخالِف هذا الزعم! ولو سلمنا -على سبيل التنزل- أنه لفظ محتمل؛ فكلامه وكلام غيره مِن مشايخ الدعوة واضح وبيِّن في ذلك، فينبغي حمل المجمل على المفصل، هذا إن سلمنا جدلًا أنه مجمل؛ فضلًا أن صاحب الكلام حي يرزق -حفظه الله-، وليس بمنأى عن الناس اتصالًا أو استفتاءً أو بحوارٍ مباشرٍ أو حتى بطريقٍ غير مباشرٍ، أم أن المخالف يلتمس أي عثرة ولو باحتمالٍ بعيدٍ؛ فأين واجب النصح إذن؟! ولو أنك نصحتَ له مباشرة ولم يستجب فقد أديت ما عليك.

7- ثم نبَّه الشيخ على أن بعض الأشخاص كانوا في عداد السلفيين ثم اتضح أن لهم مشارب أخرى!

فهل سيدافع المخالِف عن أخطاء هؤلاء، ويسوغ أقوالهم ومواقفهم أم سيعتبر أن هذه الأمور التي وقعت منهم هي من صميم المنهج السلفي؟!

8- ثم قوى الشيخ عزم أبناء الدعوة قائلًا: "فأنتم يا "شباب الدعوة السلفية" عندما قاومتم هذا الإرهاب الفكري لم تخرجوا عن "الصف الإسلامي"، بل حافظتم على الصف الإسلامي، بل لن نكون مبالغين إذا قلنا إنكم صرتم طليعة الصف الإسلامي بوجهه السلمي الإصلاحي".

هذا هو لفظه في المقال الأخير، فهب أنه أخطأ في لفظٍ فأصلحه أو وقع سبق قلم منه أو حدث خطأ في الطباعة فأصلح، ألا يكفي هذا لكل منصف أن يكون عونًا لأخيه المسلم على استقامة كلامه، فضلًا أن يحمل كلامه السابق على المحمل الحسن؛ لماذا لم تقل مثلًا: إن كلامه السابق لعله عام معناه مخصوص، أو على الأقل تستفهم أو تنصح، أم أن الحال:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة                    وعـيـن السـخـط تـبدي المساويا

وها هي قد ضبطت العبارة: فهل سيستمر الطعن؟! أم هل ستظن أنك كلما ضغطت أكثر تتم الاستجابة لك مِن قِبَل شيوخ الدعوة وأبنائها؟!

9- ثم نبَّه الشيخ على عدة أمور، منها:

بدعة الفكر القطبي: وهذا ليس بجديدٍ في كلام الشيخ أو مشايخ الدعوة، وأفكارهم هذه ليستْ مِن قبيل خلاف التنوع أو خلاف التضاد السائغ، وفي هذا رد على عبارة لبعض الفضلاء في تعليقه على المقال أنه: "ينكر بوضوح على مَن يظن أنه يحتكر الحق أو يتكلم باسم السلفية أو التيار الإسلامي ويبدع هؤلاء ويخرج أولئك... وقد كنا قبْل إنشاء الأحزاب نقول بخلاف التنوع ونضرب المثل لتكامل التيارات الإسلامية في القيام بفروض الكفايات والخلاف السائغ الذي يسعنا فيه ما وسع السلف، ولا يبدع فيه المخالف، ولا يفسق ولا ينكر فيه على المخالف إلا ببيان الحجة، وخلاف التضاد وما يعذر فيه المخالف وما لا يعذر... فأصبحنا نخرج مِن السلفية كل مَن خالفنا، ونبدع مَن بالأمس نعتبرهم شركاء الطريق وإن اختلفنا معهم!".

فيقال له: ومَن قال إن الشيخ أو الدعوة قد تغير كلامهم في فقه الخلاف وأقسامه، والواجب تجاه كل قسم؛ غاية الأمر أن تعرف أن تكفير عموم المسلمين هي بدعة الخوارج، وأن التوقف في الحكم بالإسلام لمَن شهد الشهادتين ولم يأتِ بما ينقضها أن هذا التوقف بدعة أخرى، وكلام الشيخ -على سبيل المثال- مذكور في كتبه ومحاضراته القديم منها قبْل الحديث، وكذلك كلام غيره مِن المشايخ قبْل أن يخطر ببالنا أن سيأتي يوم مِن الأيام وتنشئ الدعوة حزبًا.

فقد قال الشيخ في كتاب "منة الرحمن" -وهو مِن أكثر كتب الشيخ انتشارًا وأكثرها تداولًا-: "يثبت حكم الإسلام ظاهرًا بالنطق بالشهادتين، كما في حديث أسامة: (أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟!) (متفق عليه)، والإجماع نقله ابن رجب في جامع العلوم والحكم, بل قال: معلوم بالضرورة, وكذا بالولادة لأبوين أحدهما مسلم؛ لحديث: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ) (متفق عليه)، ومَن توقف في الحكم بالإسلام لمَن نطق الشهادتين، أو وُلد مسلمًا ولم يُعلم عنه شرك ولا ردة, فهو مبتدع؛ لخلافه إجماع السلف الصالح على ذلك، ولا يُستثنى مِن ذلك إلا مَن يقولها حال كفره؛ فلابد مِن نطقها على البراءة مِن الكفر" (منة الرحمن، ص82-83).

وقال في بعض حواشي هذه الفقرة: "ومِن هذه البدعة: بدعة تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: مسلمون بلا شبهة، وكفار بلا شبهة، وطبقة متميعة لا ينبغي الانشغال بالحكم عليهم كما قاله بعض المعاصرين، أو أنهم مجهولو الحكم تقليدًا لأصحاب الفكر القطبي".

وقد نقل في كتابه "فقه الخلاف" في الخلاف غير السائغ، ما يبدع فيه المخالف مع الاتفاق على عدم تكفيره: "ومِن هذا النوع إنكار أصل أن الله لا يعذب أحدًا قبْل بلوغ الحجة، وقد نقل عليه الإجماع ابن تيمية وابن حزم، وهذا القول قول جماعات مِن التكفير والتوقف" (فقه الخلاف، ص74).

ثم قال (ص78): "ضابط الحكم على تجمع معين أنه مِن الفرق الضالة" ثم نقل كلام الشاطبي في الاعتصام: "وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين، وقاعدة مِن قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات؛ إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعًا، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية" إلى قوله: "ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا أكثر مِن إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثيرٍ مِن الشريعة بالمعارضة".

10- ومما نبَّه عليه الشيخ: شأن جماعة الإخوان مؤخرًا، فقال: "جماعةُ الإخوان تَغَيَّرَ موقفُها الفكري تَغَيُّرًا كبيرًا بعد "2005م" وسيطرة الفريق القُطْبِيِّ الغالي المبتدع عليها، وشَرب هذا الابتداع عامة أفرادها ومَن انتسب إليها، ومَن تأثر بها ممَن ينتسبون للسلفية: كالسروريين، بل صار شبابُهم أشدّ غُلُوًّا مِن قادتهم، وأكثر مَن ينتسبون للسلفية مِمَّن وَافَقَهم يؤصِّل للغُلُوِّ أخطر منهم... و"الإخوان" -ومَن وَافَقَهُم- أهلُ بدعة؛ فلابد أن يُعامَلوا كذلك؛ فهم مُخالِفُون في أصلٍ كُلِّيٍّ في مسائل الإيمان، بقضية "المجتمع الجاهلي" الذي يعنون أنه "دار كفر" يستبيحون هدمَه وتخريبَه، وإن لم يُكَفِّرُوا جميع أفراده -ومنهم مَن يفعل-، ولكن "الطبقة المُتَمَيِّعة" التي لا يشغلون أنفسهم بالحكم عليها هي عندنا عامة أهل الإسلام! وهذا كله هم يتفقون فيه مع الطوائف التي تنتسب إلى "السرورية" ونحوها".

هذا الكلام مِن الشيخ لفظه مقيد، نعم مقيد تاريخًا ووصفًا؛ هو مقيد تاريخًا بما بعد عام 2005م، فما قبْل هذا التاريخ مخالف، وهذا هو الواقع؛ فالإخوان اتجاهان: اتجاه متأثر بفكر الأستاذ حسن البنا -رحمه الله-، واتجاه آخر متأثر أكثر بفكر الأستاذ سيد قطب -رحمه الله-، ولا يخفى أن الاتجاه الثاني أخطر فكرًا ومنهجًا.

ومقيد وصفًا بأنهم الإخوان المتأثرون بالاتجاه القطبي، فقد قال -كما سبق-: "جماعةُ الإخوان تَغَيَّرَ موقفُها الفكري تَغَيُّرًا كبيرًا بعد "2005م" وسيطرة الفريق القُطْبِيِّ الغالي المبتدع عليها".

ومَن يرجع إلى كلام الشيخ ومشايخ الدعوة وطلبة العلم فيها يعرف هذا جيدًا، ويكفي أن الشيخ نفسه قد ذكر في حوارٍ منشورٍ على عدة منتديات أن نشأته العلمية والدعوية تأثر فيها بعمه وقد كان مِن الإخوان، ومما قال: "كان عمي يلخص كتابي: سبل السلام، والمغني، حيث كانوا يدرسونهما في المعتقل، والنسخة التي عندي إلى الآن مِن زاد المعاد كانت هدية منه للوالد، وأول مَن دلني على كتاب (معارج القبول) عمي أيضًا، فلذلك كان المنهج فيه قرب كبير أو فيه روافد كثيرة مِن المنهج السلفي، ولم يكن منهج الإخوان في ذلك الوقت به هذا القدر الكبير مِن التميع الحالي.

لقد كان داخل الإخوان توجهات سلفية قوية متأثرة بجهود الشيخ محمد رشيد رضا الذي كان أستاذًا للشيخ حسن البنا، وبجهود الشيخ حامد الفقي، والشيخ محب الدين الخطيب اللذين يعدان مِن قرناء الشيخ البنا -رحمهم الله جميعًا-".

ثم قال: "وكما ذكرتُ كان عمي متأثرا في الحقيقة بالتوجهات السلفية داخلهم، ولم يكن هناك تعصب أو محاولة استقطاب، بل كان الإخوان في ذلك الوقت يمثلون روح التدين العام، والاتجاه الذي يستوعب طاقة الشباب ويلبي احتياجاته ويعايش واقعه ويغيره إلى حد ما".

11- ثم أشار الشيخ إلى أمرٍ خطيرٍ فقال: "إضافةً إلى أمرٍ آخر شديد الخطورة، وهو: أنهم -في سبيل إرضاء الغرب- يقبلون القضايا المُخَالِفَة لأصل الإيمان، مثل: استباحة المحرمات: كحرية المعاشرة الجنسية، وكذلك حرية الشذوذ والمِثْلِيَّة! وأنه ينبغي أن توجد التشريعات التي تحمي حقوقهم، وكذلك مساواة الذكر والأنثى في الميراث، وكذلك زواج المسلمة مِن الكافر، وكذلك القول بمساواة المِلَل، وأنه لا خلاف في الأصول بينها؛ كل ذلك إرضاءً للغرب!

ولا شك أن هذا الخط الذي يجمع بيْن الليبرالية المزعومة والإسلامية، خطٌّ يُمَثِّل أصلًا كُلِّيًّا بِدْعِيًّا خطيرًا؛ هذا بالإضافة إلى الفروع التي لا تُحصى في شتى المواقف، والسروريون مثلهم في قضية الإيمان، والمنتسبون للسلفية الذين استعملوا الخطاب التكفيري والتخويني الطاعن في دينِ مَن خَالَفَهم سياسيًّا مثلهم كذلك؛ ولو كان قبْل ذلك رأسًا مِن رؤوس "الدعوة السلفية"، فضلًا عن التَّوَجُّه الإسلامي العام".

هل يستطيع المعترض والمخالف لما ذكره الشيخ أن ينفي هذه التهمة عن الإخوان أو غيرهم، إن دور مَن يثبت هذه الأمور عنهم أو ينفيها هو إقامة البينة، وأسهل شيء لمَن يعارض أن هذا الكلام لديهم أن يجري بحثًا عن منشوراتهم وتسجيلاتهم المسموعة والمرئية ليعرف كلام القوم، ولا أنسى أن أذكره أن يبحث -في جملة ما يبحث- عن تصريحات إخوان تونس الأخيرة فيما يتعلق ببعض القوانين الباطلة التي ظهرت في بلادهم.

12- وختامًا:

إذا أصرَّ مَن يقرأ هذا الكلام -وغيره مِن مخالفي الدعوة- على موقفه فأذكِّر نفسي وإياه أن نلهج بالدعاء أن يجمع على الحق بيْن كلمة المسلمين وأن يجعلهم يدًا واحدة على مَن سواهم، وأذكر نفسي وإياه بقوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10).

أما مَن خرج بعد قراءة هذا المقال قائلًا: إن كاتبه يجعل الشيخ في مصاف الإمام "أحمد"، وأنهم صاروا يمجدون في كلام شيوخهم ويدافعون بالباطل؛ فمثله جدير بالإهمال، وهو سبيل رزق لحسناتٍ يحصلها المرء يوم القيامة.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.