مجاهدة النفس بكثرة السجود (12)

  • 197

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

سجود التلاوة:

مِن الطاعات المقربة لله -تعالى-: "السجود"، سجدة واحدة عقب قراءة آية مِن آيات السجود في القرآن الكريم في الصلاة أو خارجها؛ ثبت ذلك مِن قوله -صلى الله عليه وسلم- وفعله، وهذا مجمع عليه، وهي سجدة مستحبة للقارئ والمستمع، سجدة يكبر قبلها، ويكبر للرفع منها، ولا تشهد بعدها ولا تسليم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ). الويل: الهلاك.

وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَرَأَ وَالنَّجْمِ فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرَ أَنَّ شَيْخًا أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا! قَالَ عَبْدُ اللهِ: "لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا" (متفق عليه).

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَجَدَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ وَالجِنُّ وَالإِنْسُ" (رواه البخاري). وزاد الطبري في الأوسط أن هذا كان بمكة.

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "فأفاد اتحاد قصة ابن عباس وابن مسعود".

وقال الشوكاني -رحمه الله-: "قوله: (وَالجِنُّ): كان مستند ابن عباس في ذلك إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- إما مشافهة له، وإما بواسطة؛ لأنه لم يحضر القصة لصغره، وأيضًا فهو مِن الأمور التي لا يطلع عليها إلا بتوقيف".

وعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: "قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا" (متفق عليه)، وتركه -صلى الله عليه وسلم- السجود في هذه الحالة لا يدل على تركه مطلقًا؛ لاحتمال أن يكون السبب في الترك إذ ذاك كون القارئ لم يسجد أو كان الترك لبيان الجواز.

قال في الفتح: "وهذا أرجح الاحتمالات -يعني بيان الجواز- وبه جزم الشافعي".

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) وَ(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ(رواه مسلم)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "(ص) لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ, وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللهُ عليه وسلَّم- يَسْجُدُ فِيهَا" (رواه البخاري).

قال الشوكاني -رحمه الله-: "المراد بالعزائم ما وردت العزيمة في فعله كصيغة الأمر مثلًا". وقال أيضًا: "وإنما لم تكن السجدة في (ص) مِن العزائم؛ لأنها وردت بلفظ الركوع؛ فلولا التوقيف ما ظهر أن فيها سجدة".

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ مَعَهُ، حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ" (متفق عليه). ولمسلم في رواية: "فِي غَيْرِ صَلَاةٍ".

وعن عمر -رضي الله عنه- أنه: قَرَأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى المِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الجُمُعَةُ القَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ، قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ، فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ، فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-" (رواه البخاري). وفي لفظٍ: "إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء".    

ومواضع هذه السجدات في القرآن خمسة عشر موضعًا، هي: (الأعراف: الآية 206)، (الرعد: الآية 15)، (النحل: الآية 49)، (الإسراء: الآية 107)، (مريم: الآية 58)، (الحج: الآيتان: 18، 77)، (الفرقان: الآية 60)، (النمل: الآية 25)، (السجدة: الآية 15)، (ص: الآية 24)، (فصلت: الآية 37)، (النجم: الآية 62)، (الانشقاق: الآية 21)، (العلق: الآية 19). 

وفي سجود التلاوة: يسبح الساجد "سبحان ربي الأعلى"، وله أن يقول مِن أذكار السجود في الصلاة ما يشاء، وله أن يدعو بما شاء. وإن أخَّر القارئ السجود لم يسقط ما لم يطل الفصل، فإن طال فإنه يفوت ولا يُقضى.