معركة "الزلاقة"

  • 239

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتعد معركة (الزلاقة) مِن المعارك المشهورة في تاريخ المسلمين في الأندلس، نصر الله -تعالى- فيها المسلمين نصرًا كبيرًا يُضرب به المثل.

ويقع سهل الزلاقة على قيد ثلاث مراحل مِن شمال مدينة (بطليوس) إلى يسار نهر (جريرو)، أحد أفرع وادي (يانة)، على مقربة مِن حدود البرتغال الحالية، وقد ذكر ابن الأثير في تاريخه أن المعركة وقعت في الجمعة الأولى مِن شهر رمضان مِن عام 479 هجريًّا، ووافقه ابن خلكان في السَّنة، ولكنه ذكر أنها وقعتْ في المنتصف مِن شهر رجب، وورد في (الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية)، وفي (روض القرطاس) أنها كانت في يوم الجمعة 12 رجب عام 479 هجريًّا، وهو ما رجحه محمد عبد الله عنان في كتابه: (دولة الإسلام في الأندلس) الجزء الثالث، بينما ذكر المراكشي أنها وقعتْ في رمضان عام 480 هجريًّا.

سبب المعركة:  

بدأت الأحداث بتطاول ملك الإفرنج "ألفونسو السادس"، المسمى بـ(الاذوفونش) ملك قشتالة، على المعتمد بن عباد سلطان المسلمين في الأندلس، وحاكم قرطبة، وتهديده له بنزع قرطبة مِن أيدي المسلمين، بل وأرسل إلى المعتمد رسالة ساخرة، يقول له فيها: "كثر -بطول مقامي- في مجلسي الذباب، واشتد علي الحر، فاتحفني مِن قصرك بمروحة أروح بها على نفسي، وأطرد بها الذباب عن وجهي!".

ورغم أن المعتمد كان أقل مِن ملك الإفرنج عددًا وعدة، ولكنه أغلظ في الرد على رسالته الساخرة، حيث كتب له على ظهرها: "قرأت كتابك، وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح مِن الجلود اللمطية، تروح منك، لا تروح عليك -إن شاء الله تعالى-".

طلب المساعدة مِن سلطان المغرب:

قرر المعتمد أن يطلب مساعدة سلطان المغرب، الملقب بأمير المسلمين "يوسف بن تاشفين"، فأرسل له في ذلك، فجاءه الرد مِن ابن تشفين: "أنا أول منتدب -أي مستجيب- لنصرة هذا الدين"، ولما علم بعض رجال المعتمد بطلب المعتمد مِن ابن تاشفين أخذوا يحذرونه مِن قدوم ابن تاشفين مِن المغرب إلى الأندلس خشية أن يتطلع بعد ذلك إلى ملك الأندلس، فينتزعها مِن المعتمد، وألحوا عليه في ذلك قائلين: "السيفان لا يجتمعان في غمدٍ واحدٍ"، فأجابهم بمقالته المشهورة التي صارت تضرب مثلًا: "رعي الجمال خير لي مِن رعي الخنازير!". يعني: أنه إذا أصبح مأكولًا لابن تاشفين وصار أسيرًا عنده يرعى له الجمال في الصحراء خير له مِن أن يكون مأكولًا لملك الإفرنج، ويصير أسيرًا عنده يرعى له الخنازير في قشتالة.

سارع ابن تاشفين إلي عبور البحر إلى الأندلس ليشارك أهل الأندلس في قتال الإفرنج، ولما علم "ألفونسوا" بمسير ابن تاشفين ساءه ذلك، فأرسل إلي ابن تاشفين رسالة يهدده ويتوعده، فكتب ابن تاشفين على ظهر الرسالة ردًّا موجزًا: "الذي يكون ستراه".

استقبل المعتمد يوسف بن تاشفين بحفاوة، وتعانقا وتعاهدا، وأظهر كل منهما لصاحبه المودة والمحبة، وأهدى المعتمد إلى ابن تاشفين الهدايا الفاخرة، واتفقا على التقدم نحو أشبيلية، وراسلوا ملوك الطوائف في إمداد الحملة لمواجهة جيش الإفرنج.

ألفونسو يحاول مخادعة المعتمد:

لما اقترب الجمعان أرسل ألفونسوا إلى المعتمد -وكان اليوم يوم خميس- أن غدًا يوم الجمعة، وهو عيدكم، وبعده السبت يوم اليهود، وهم كثير في محلتنا، وبعده يوم الأحد، وهو عيدنا؛ فليكن لقاؤنا للحرب يوم الاثنين، ولكن المعتمد لم يركن إلى كلام ملك الإفرنج؛ خشية أن تكون منه خدعة، حتى يأمن المسلمون القتال حتى يوم الاثنين، فلا يأخذوا أهبتهم واستعدادهم له، فيهاجمهم جيش الإفرنج، ويصيب مِن المسلمين غرة، فدعا المعتمد جيشه وجيش ابن تاشفين إلى أن يكون الجميع على أتم الاستعداد للقتال مِن يوم الجمعة، وبالفعل جاءت الأخبار مِن فرسان الاستطلاع في جيش المعتمد بوجود تحركات غير عادية في جيش الإفرنج أثناء ليلة الجمعة، وبالفعل هاجم جيش الإفرنج جيش المعتمد فجأة، حيث كان جيش المسلمين مِن وحدتين: قوات الأندلس في المقدمة يقودها المعتمد بن عباد، وله ميمنة وميسرة، وقوات المرابطين (المغربية) في المؤخرة، فيهم فرسان مِن البربر من سائر القبائل، بينما يتولى يوسف بن تاشفين قوة مِن نخبة مِن قواته؛ فهاجم ألفونسوا جيش ابن عباد أولًا طمعًا في كسره أولًا، ثم الانفراد بجيش ابن تاشفين بعدها، فصدهم المسلمون، واشتد القتال وحمي الوطيس.

ووجد المسلمون في جيش الإفرنج شدة وقوة وعنف، فاختل نظامهم، وتقهقر بعضهم، وفيهم ابن مِن أبناء المعتمد، وكادت تدور عليهم الدائرة، ولكن المعتمد صبر صبرًا لا نظير له، وأثخنته الجراح، حيث نال ضربة على رأسه، وجرحت يده اليمنى، وطعن في أحد جانبيه، وهلك تحته ثلاثة أفراس، كلما هلك جواد قدَّموا له غيره.

وكان ابن تاشفين قد أبطأ في الاشتراك في المعركة بجنوده؛ إذ استبعد أن يجرؤ ملك الإفرنج على الغدر بالمسلمين، ولكن سرعان ما ظهر في أرض المعركة، لنجدة الأندلسيين، فصدم النصارى بجمعه وردهم، فانتظم به شمل ابن عباد ومَن معه، واستردوا ثباتهم، وعاد الفارون إلى صفوفهم، وأنزل الله -تعالى- السكينة على جنود المسلمين، فتغير وجه المعركة، ولاحت تباشير النصر، ولم يقترب النهار مِن نهايته إلا وقد استطاع المسلمون إخراج جيش الإفرنج مِن محله، فولى جنود الإفرنج ظهورهم فارين.

وقد لجأ ابن تاشفين إلى خطةٍ مبتكرةٍ، حيث تجاوز النصارى المهاجمين، وقصد بقواته الاحتياطية معسكر النصارى ذاته، وفيه حراسة ضعيفة؛ فهاجمه بشدة، ووثب على مؤخرة القشتاليين فمزقها، ثم أضرم في معسكرهم النار، مما أجبر ألفونسو على الارتداد لإنقاذ معسكره في المؤخرة مِن الهلاك، فاصطدم بالمرابطين، ولم يستطع الرجوع إلى معسكره إلا بعد خسائر فادحة، واستؤنف القتال، فلم يقوَ النصارى عن مناهضة المسلمين، وكثر فيهم القتل، فأدرك ألفونسو وقادته أنهم يواجهون الموت، فبادر بالتراجع، حتى أدرك تلًّا قريبًا؛ فاعتصم -ومَن معه- به، فلما دخل الليل هرب ومعه القليل مِن جنوده منهزمين تحت جنح الظلام بعد هلاك أكثر جيشه، واتبعهم المسلمون بعد أن استولوا على ما كان في محلهم مِن الآلات والسلاح والعتاد وغير ذلك.

وأمضى المسلمون الليل في ميدان القتال يرقبون حركات النصارى، وعمدت قوة مِن الفرسان في صباح اليوم التالي إلي مطاردة المتخلفين مِن النصارى، وعمدت قوة أخرى إلى جمع الأسلاب وكانت عظيمة ووفيرة.

وقد رجع ابن عباد وجنوده ومعه ابن تاشفين وجنوده منتصرين نصر مبينًا، ذاعت أنباؤه في سائر جنبات الأندلس؛ فأعز الله -تعالى- به المسلمين في الأندلس مِن جديدٍ، وأعلى كلمتهم، فسر بهم أهل الأندلس غاية السرور، وكثر الدعاء لهما والثناء عليهما في المساجد وعلى المنابر.

ولله الحمد والمنة.