أنتَ غريب!

  • 199

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فهل الدنيا دار إقامة أم ممر؟!

سؤال يحتاج إلى إجابة مِن العقلاء!

بالتأكيد الإجابة مِن كل عاقل, فاهم للشرع مستفيد منه, أنها ممر وليستْ دار إقامة.

وإذا علمنا ذلك: فلماذا هذا التقاتل والتناحر على جيفة زائلة؟!

والعاقل الحازم هو الذي ينتبه إلى أن الدنيا ممرٌّ لا مَقرّ، وأنها مزرعة للآخرة، ولا تعدو أن تكون معبرًا إليها فلا ينشغل بجمعها، ولا ينغمس في شهواتها وملذاتها فيتشتت قلبه ويغفل عن الاستعداد للرحيل منها، ويكتفي منها بالقليل الذي يَبلُغ به الدار الآخرة، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ، قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

وما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليترك أصحابه دون أن يبيّن لهم ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم في الدنيا، ودون أن يحذّرهم مِن الركون إليها؛ فهو الرحمة المهداة، والناصح الأمين، فكان يتخوّلهم بالموعظة، ويضرب لهم الأمثال؛ عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ). وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ" (رواه البخاري).

قال المناوي -رحمه الله-: "هذا الحديث أصل عظيم في قِصر الأمل، وألا يتخذ الدنيا وطنًا وسكنًا، بل يكون فيها على جَناح سفر مهيأً للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأمم".

وانظر كيف شبّه النبي -صلى الله عليه وسلم- مُقام المؤمنين في الدنيا بحال الغريب؛ فإنك لا تجد في الغريب ركونًا إلى الأرض التي حلَّ فيها أو أُنسًا بأهلها، ولكنه مستوحش مِن مقامه، دائم القلق، لم يشغل نفسه بدنيا الناس، بل اكتفى منها بالشيء اليسير.

وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ): في هذه العبارة ترقٍّ بحال المؤمن مِن حال الغريب إلى حال عابر السبيل، فعابر السبيل: لا يأخذ مِن الزاد سوى ما يكفيه مؤونة الرحلة ويعينه على مواصلة السفر، لا يقر له قرار، ولا يشغله شيء عن مواصلة السفر، حتى يصل إلى أرضه ووطنه.

وهكذا يكون المؤمن، مقبلًا على ربه بالطاعات، صارفًا جهده ووقته وفكره في رضا الله -سبحانه وتعالى-، لا تشغله دنياه عن آخرته، قد وطـَّن نفسه على الرحيل؛ فاتخذ الدنيا مطيّة إلى الآخرة، وأعد العدّة للقاء ربه، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

تلك هي الدنيا التي غرّت الناس، وألهتهم عن آخرتهم، فاتخذوها وطنًا لهم ومحلًا لإقامتهم؛ لا تصفو فيها سعادة، ولا تدوم فيها راحة، ولا يزال الناس في غمرة الدنيا يركضون، وخلف حطامها يلهثون، حتى إذا جاء أمر الله انكشف لهم حقيقة زيفها، وتبيَّن لهم أنهم كانوا يركضون وراء وهم لا حقيقة له، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران:185).

والحمد لله رب العالمين.