السلفية والصوفية: نصحٌ بعلم، وحكمٌ بعدل (1)

  • 225

    رد علمي على ورقة بعنوان: "السلفية والصوفية، عداء لا ينتهي وحرب دائمة الاشتعال!"

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكثيرًا ما كانت المراكز البحثية تسعى لأغراضٍ غير واضحة في إصدار تقارير انطباعية لا تمتُّ للبحث العلمي بصلة، وتظهرها على أنها تقارير علمية، وتُطلق عليها وصفَ الدراسة دون أن تخضعها لأي قانون مِن قوانين البحث العلمي؛ وهذا مما يجعلها خطيرة حين يُعتمد عليها في تشكيل رأيٍ عامٍّ، وتكون أكثر خطرًا حينما يَعتمِد عليها متخذو القرار في أي بلدٍ مِن البلدان التي تمسُّها تلك الأوراقُ الموصوفةُ خطأً بالدراسة.

وإن مما تنطبق عليه المقدمة السابقة أشد الانطباق تلك الورقة الانطباعية الموصوفة خطأً بكونها دراسة، والتي أعدتها بوابة الحركات الإسلامية في مصر تحت عنوان: "السلفية والصوفية... عداء لا ينتهي، وحرب دائمة الاشتعال!".

ولن نقف هنا في نقد السلوك المنهجي في هذه الورقة، بل سندلف مباشرة إلى النقد العلمي، وسيدرك القارئ مِن خلاله: الفقر المنهجي الذي تعاني منه هذه الورقة!

حين يصل القارئ إلى نهاية الورقة سوف يُدرك الرسالة التي تريد الورقة إيصالها إلى القارئ؛ إذ ليس المراد بها بيان حقيقة العلاقة بيْن السلفية والصوفية؛ بل المراد إيصال القارئ إلى نتيجة: أنه لا حاجة بنا في ظل دولة المواطنة إلى المدارس الدينية، وأن مشكله دولة المواطنة ليست مع الصوفية، بل هي مع السلفية التي لا تقبل التعددية ولا المشورة... إلى ما هنالك مِن العبارات الهجائية التي يُلقيها الباحث على السلفية دون أن يقدم مستندًا علميًّا أو تاريخيًّا لهذه الهجائيات!

وهنا تبرز معضلة مِن معضلات البحث العلمي، وهي: عدم تحديد المراد بالمصطلحات؛ فلم يبيِّن الباحث مراده بالسلفية، ولا مراده بالصوفية؛ لذلك وقع في خلط ظاهر.

مِن أبرز ملامحه: أنه اتَّهم السلفيين باستحلال قتل الصوفية وتكفيرهم، وضَرَبَ مثالًا لذلك بتفجير مسجد الروضة شمال شبه جزيرة سيناء.

وهنا يظهر منتهى الخلط والمجازفة والبعد عن المنهجية العلمية؛ فإن تفجير مسجد الروضة حصل يوم الجمعة 24/ 11/ 2017م، ومعلوم أن منطقة شمال سيناء ميدان صراع بيْن الخوارج التكفيريين المنتمين لـ"داعش" والقاعدة، وبيْن الجيش المصري، وقد كان تنظيم داعش أعلن مرارًا قبْل الحادث تكفيره للصوفية، وتهديده لصوفية قرية الروضة، وقام فعلًا بعملياتٍ مهاجمة لحلقات صوفية، وقتل بعض أقطاب الصوفية، كما هو مفصل في تحقيق صحفي نشرته مجلة المدن الإلكترونية بتاريخ 25/ 11/ 2017م، بعنوان: "مَن يقف وراء تفجير مجزرة مسجد الروضة؟".

ومع أن داعش أو أيًّا مِن الجماعات التكفيرية في سيناء لم تتبنَ الحادث، ولم تصل الجهات الأمنية حتى اليوم لحقيقة مَن نفذ الهجوم؛ فإن داعش أو تكفيريِّي سيناء ممَن يناصبون الجيش المصري العداء ليسوا سلفيين، ولا يقر بانتمائهم إلى السلفية أي عالم معتبر؛ بل إن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية -وهي أقوى وأصدق تمثيل للسلفية- كانت مِن أوائل الجهات العلمية الشرعية الإسلامية براءة مِن داعش، ومن القاعدة، ومن التكفيريين عمومًا؛ حيث يرجع أقدم بياناتها ضد التكفير إلى عام 1980م، حيث كانت السعودية من أوائل دول العالم ابتلاء بجماعات التكفير، وتوالت فتاوى هيئة كبار العلماء في ذم المنهج التكفيري ونسبته إلى الخوارج، وأصدرت بيانات ضد القاعدة وداعش؛ كما أن هيئة كبار العلماءالسعودية أصدرت بيانًا استنكرت فيه حادث مسجد الروضة في يوم وقوعه بتاريخ: 24/ 11/ 2017م.

ومما جاء في البيان الذي نشرته وكالة الأنباء السعودية: "إن علماء الإسلام يُحَرِّمون ويجرِّمون هذه الحوادث الإرهابية في أي مكان مِن العالم، والتي تحصد الأبرياء في أماكن العبادة وفي الطرقات والساحات العامة، ويوجبون إيجابًا شرعيًّا مكافحة الإرهاب، وملاحقة الإرهابيين للقضاء عليهم واستئصال شرورهم".

كما استنكرت الحادث: جماعة أنصار السُّنة المحمدية في مصر، وأصدرت "الدعوة السلفية في الإسكندرية" بيانًا تدين فيه الحادث، وتستنكره كما استنكره جميع العلماء والدعاةالسلفيين.

الشاهد مِن ذلك: أن نسبة هذه الحادثة إلى السلفية مِن أجل إثبات دعوى لا تقوم على ساق -وهي: أن السلفية تكفِّر الصوفية وتقتلهم-؛ مما يؤكد ضعف المسار العلمي لهذه الورقة، وأنَّ هذا الصنيع ليس هو إلا متاجرة بالأحداث مِن أجل تصفية حسابات علمية منهجية شرعية. 

وهنا لا أحب أن يفوتني: التذكير بأن الجماعات التكفيرية في شمال سيناء تكفر السلفيين المصريين والممثَّلين في الدعوة السلفية في الإسكندرية، وجماعة أنصار السنة المحمدية، ويكفرون أعيان العديد من المشايخ والدعاة السلفيين في مصر، وقاموا بالفعل بقتل الداعية والخطيب السلفي في شمال سيناء الشيخ "مصطفى عبد الرحمن" -رحمه الله- في 24 أكتوبر 2015م.

إذن؛ فجعل هذه الحادثة الأليمة الإجرامية المستنكرة عند السلفيين وغيرهم مثالًا على تكفير السلفيين للصوفية، واستباحة دمائهم يتضمَّن خطأين منهجيّين، وخطأين علميَّين؛ أما المنهجيان: فعدم تحديد الباحث مرادَه بالسلفية؛ لذلك يُدخِل فيها ما ليس منها. والآخر: أن الباحث ذكر في ورقته أنّ السلفيين يقسمون الصوفية إلى أقسام، وأن القسم الثالث هو الذي يكفره السلفيون -بزعم الباحث-، وعند تأمل المجني عليهم في حادث مسجد الروضة لا نجدهم مِن هذا القسم؛ بل هم مِن عامة المسلمين، وليسوا على نمط الحلاج وغيره مِن الأسماء التي أشار الباحث لها.

أما الخطآن العلميان: فنسبة هذا الحادث إلى السلفيين، وهي تهمة ليس لها سند علمي، بل الأسانيد العلمية ضدها. والآخر: وصف تكفيريِّي سيناء وداعش بالسلفيين، وهذا ما يستنكره السلفيون؛ إذ إن الجماعات التكفيرية تكفِّر السلفيين، كما أن السلفيين مِن أسرع الناس وأقدمهم براءة مِن هذه الجماعات، وأكثرهم ابتلاءً واصطلاءً بشرها.

نعود للسلفيين ودولة المواطنة:

مع أن هذه الفكرة جعلها كاتب الورقة في نهايتها، إلا أنني أرى البدء بالرد عليها قبل ما سواها، وذلك لأنها هي الرسالة التي أرادت الورقة إيصالها.

حين ننطلق في الحكم على السلفيين مِن تعريف دقيق لهم -وهو الجانب المنهجي الذي أغفلته الدراسة- فإننا سنقول: هم مَن ينادون بالعودة في فهم الإسلام عقيدة وفقهًا إلى فهم السلف الصالح مِن الصحابة، كما تلقَّوه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإننا سنجد أن مَن ينطبق عليهم هذا الوصف مِن السلفيين هم عمليًّا أكثر مَن يحترم دولة المواطنة، سواء اتفق معها فكريًّا أم اختلف معها؛ فإن إيمان السلفيين بها جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن الأمر بالسمع والطاعة لولاة الأمر في المنشط والمكره، والصبر على ولاة الجور، والموازنة بيْن المصالح والمفاسد، والقول بأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وتقديم أخف المفسدتين عند تعارضهما؛ كل هذه القواعد المنهجية لدى السلفيين والتي تلقوها عن الشرع؛ تجعلهم أفضل الناس انسجامًا مع دولة المواطنة دون أن يؤدي هذا الانسجام إلى تنازلهم عن أصولهم وثوابتهم؛ لكن الإشكالية تأتي مِن بعض الدول التي تصف نفسها بدول مواطنة حين تحاول التضييق على السلفيين كي يتخلَّوا عن ثوابتهم؛ وذلك بالحيلولة بينهم وبيْن الدعوة بالحسنى أو منع بعض مظاهر التديُّن كالنقاب أو التضييق على مرسلي اللحى منهم.

والمشاهد: أن السلفيين بالرغم مما يحصل عليهم مِن التضييق في بعض الدول التي تصف نفسها بدول مواطَنَة؛ إلا أنهم لايخرجون مطلقًا عن انضباطهم في التعامل مع الدولة، وصبرهم على كل ما يحصل لهم، ومحاولة مدافعته بالحسنى.

ولننصرف إلى إثبات ذلك ببعض الأمثلة الواقعية:

السلفية والمواطنة في المملكة العربية السعودية: المملكة العربية السعودية دولة سلفية وفق ما صرح به مؤسسها الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله، ووفق ما صرح به الملوك من بنيه حتى الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله؛ ومع ذلك فهي دولة مواطنة، ولم تحُل سلفية الدولة دون أن تكون كذلك؛ ولذلك لم يدخل وصف الدولة بالسلفية في النظام الأساسي للحكم بجميع مواده؛ ومن أهداف ذلك حفظ حق الوجود المذهبي في بعض مناطق من الدولة، وجاءت المادة الأولى مِن النظام الأساسي هكذا: "المملكة العربية السعودية دولة إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-"، وجاءت المادة السابعة لتقول: "يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة".

وبما أن جميع المواطنين مسلمون فهاتان المادتان لا اعتراض عليهما عند أي مِن أفراد الشعب؛ والدولة انطلاقًا من هاتين المادتين تعطي المواطنين حقوقهم دون النظر إلى انتماءاتهم المذهبية؛ وبما أن الصوفية هم موضوع النقاش فهم في السعودية لا يعانون مِن أي تمييز حقوقي.

وعلى الصعيد العمليِّ فهم يمارسون جميع شعائرهم الخاصة بهم بشرطين: 

الأول: أن لا تخالف هذه الشعائر النظام العام للمجتمع.

الآخر: أن لاتخالف هذه الشعائر الكتاب والسنة اللَّذين هما دستور الدولة والحاكمان على جميع أنظمتها.

ولذلك ومن منطلق هذه الحقوق استطاع المنتسبون للصوفية الوصول بكفاءاتهم الذاتية إلى مناصب حساسة وقيادية في الدولة، ومنها: عدد مِن الوزارات الهامة دون أن يكون انتماؤهم المذهبي حائلًا دون ذلك؛ كما وصلوا إلى مناصب علمية في التعليم والجامعات وبعض الهيئات الشرعية.

وعليه فبوسعنا الجزم بأن السعودية مثال لدولة مواطنة ناجحة، ولم تحُل سلفيتها دون ذلك؛ كما أنها لم تشهد على مدى تاريخها صراعًا سلفيًّا صوفيًّا على النحو الذي يحكيه التقرير؛ لأن أي محاولة لإذكاء أي صراع -سواء أكان من أطراف صوفية أم سلفية- يتم إنهاؤه بسرعة ودون حدوث أي تبعات وفقًا للكتاب والسُّنة.