السلفية والصوفية: نصحٌ بعلم، وحكمٌ بعدل (2)

  • 234

  رد علمي على ورقة بعنوان: "السلفية والصوفية، عداء لا ينتهي وحرب دائمة الاشتعال!"

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

السلفية ودولة المواطنة خارج السعودية:

تنتشر السلفية "الحقة" التي تحدَّثنا عن تعريفها في العنوان السابق في جميع دول العالم الإسلامي، بل وفي أوروبا وأستراليا والأمريكيتين، وينتظم السلفيون في كل تلك الدول كمواطنين خاضعين للقانون، بل ومتجاوبين معه؛ وتكمن مشكلتهم في نسبة الجماعات التكفيرية نفسها إلى السلفية؛ وهذا الانتساب ينبغي أن لا ينطلي على المراكز البحثية العلمية، ولا على متخذي القرار في كل تلك الدول.

نعم، يختلف السلفيون في كل تلك الدول بيْن ناشطين في العمل السياسي في دولهم، وآخرين يؤثرون العمل الدعوي والإغاثي والتطوعي على العمل السياسي مع عدم اعتراضهم على الاشتغال بالسياسة، وفئة ثالثة ترى الاشتغال بالعمل الدعوي والتطوعي، ولا ترى جواز المشاركة في العمل السياسي.

كل تلك الفئات موجودة، لكنها كلها تجتمع في العمل ضمن القانون وداخل ولاية الدولة وسيادتها، ولا يمكننا في هذا الرد إثبات ذلك مِن خلال استعراض أوضاع السلفيين في كل أنحاء العالم، لكننا سوف نكتفي بالسلفيين في مصر أنموذجًا؛ لكون الورقة موضوع الرد منطلقة مِن هناك:

السلفية في مصر والمواطنة:

يمكن القول بأن أبرز القوى السلفية الظاهرة اليوم في مصر تتمثل في: جماعة "أنصار السنة المحمدية"، و"الدعوة السلفية في الإسكندرية"، والسلفيين السائرين على طريقة الشيخ سعيد رسلان ومَن وافقه، وهم أقل مِن الفئتين الأوليين.

فجماعة أنصار السنة تأسست منذ أكثر مِن مائة عام، وعاشت في ظل العهد الملكي والناصري، وفي عهد الرؤساء السادات ومبارك ومرسي، والرئيس السيسي اليوم؛ وهي بعيدة عن العمل السياسي، وتمارس الدعوة قدر المتاح نظامًا داخل المساجد التي تتولى الإشراف عليها، وعبْر القدوة الصالحة، وليس لها أي مشكلات مع دولة المواطنة، بل تطالب بشكل نظامي بحقوقها التي يكفلها لها النظام، ويطالب المنتمون لها بما يكفله النظام لهم من حقوق، دون أن يذكر التاريخ لها أي صدام مع الدولة؛ بالرغم مِن أنها عانت في أوقاتٍ عديدةٍ مِن التضييق، لكنها تجاوزت ولا تزال تسعى لتجاوز كل عقبة أو تضييق بما أوتيت مِن حكمةٍ وصبرٍ ولينٍ.

أما "الدعوة السلفية في الإسكندرية": فنشأت منذ ما يزيد قليلًا على الأربعين عامًا، وهي ذات نشاطٍ علميٍ ودعويٍ كثيفٍ وقويّ؛ وبسبب تزامن نشوئها مع حركة الجماعات الإسلامية المسلحة في مصر تعرضتْ عدة مرات للتضييق، وتعرض أفرادها للحبس والأذى، ومع ذلك لم تتَّهم هذه الجماعة بأي نشاط مخالف للنظام، سواء أكان ذلك في عهد الرئيس السادات أو مبارك، وكذا في عهدي الرئيسين: مرسي، والسيسي، وظل المنتمون لها محافظين على النظام، مطالبين بحقوقهم الوطنية وفق الأساليب المقررة نظامًا، ولم يلجؤوا في أحلك الأوقات لأي نوعٍ مِن العنف.

وبعد ثورة "25 يناير" رأى بعض السلفيين -وأكثرهم مِن المنتمين للدعوة السلفية في الإسكندرية- المشاركة السياسية عبْر إنشاء حزب سياسي؛ وبالفعل تم إنشاء "حزب النور"، وحصل بطريقة ديمقراطية نزيهة على 25% مِن مقاعد البرلمان؛ ومع ذلك لم تمكّنه السلطة في ذلك الوقت -وكانت للإخوان المسلمين ممثلين في الرئيس محمد مرسي العياط- مِن حقه في المقاعد الوزارية، فلم يُعطَ حزب النور أي وزارة أو أي منصب استشاري؛ مع إعطاء الأحزاب العلمانية واليسارية ما يقرب أو يزيد عن النصف مِن المقاعد الوزارية!

ومع هذا الغمط في الحقوق السياسية تعامل "حزب النور" وقواعده الشعبية مع الأمر بانسيابية تامة، ولم يقوموا بإثارة أي مشكلات مع الدولة؛ وبعد ذلك حلّ البرلمان؛ ثم جاءت "ثورة 30 يونيو"، والتي كانت تبعاتها مِن تولي الجيش للسلطة وعزل الرئيس مرسي غير مرحب بها لدى حزب النور؛ إلا أنه تعامل بواقعية تامة، وأبصر مآلات الأمور، ووافق على ما عُرف آنذاك بـ"خارطة الطريق"، وشارك في صياغة الدستور الجديد؛ وكان لمشاركته أثرها البالغ في النص على إسلامية الدولة ومصدرية الشريعة في ديباجة الدستور؛ وموقفه مِن خارطة الطريق لم يمنعه مِن إدانة الأسلوب الذي تم به فضّ تجمع رابعة، والنهضة، وعبَّر عن ذلك بشكلٍ نظاميٍ وحضاريّ يكفله له النظام والدستور.

ولستُ في صدد استعراض مواقف حزب النور، ولكني قدمتُ مثالًا على احترام السلفيين للمواطنة في دولة ترفع شعار المواطنة؛ ونجاحهم في العمل السياسي مع حرمانهم مِن حقوقهم السياسية، وهذا خلاف ما ادَّعت الورقة؛ حيث زعمت الورقة أن الفكر السلفيَّ لايقوم على مرونة تقبل الآخر!

وحين ننظر إلى جماعة أنصار السُّنة نجد أنهم تعاملوا مع المتغيرات السياسية بهدوءٍ تامٍّ، ولم يغيّروا مِن موقفهم الثابت مِن عدم الخوض في السياسة، ومِن الانشغال برسالتهم الأساسية وهي الدعوة.

وبالرغم مِن ابتعاد الشيخ رسلان والموافقين له عن المشاركة السياسية واختلافهم الشديد مع إخوانهم في الدعوة السلفية وأنصار السُّنة، إلا أنهم ظلوا على خط الوقوف مع الدولة وتقديم الأمن والسلم، والوحدة والاستقرار على غيرها مِن المطالب المهمّة.

نعم، هناك الكثير مِن السلفيين النخبويين -في القاهرة خاصة- مَن وقف مع الإخوان بعد "ثورة 30 يونيو"، واعترضوا بشكلٍ قويٍّ جدًّا على ما قام به الجيش مِن إجراءات، لكن لا يمكن أن يصنَّف ذلك في خانة الاعتراض على دولة المواطنة أو عدم قبول للآخر أو العجز عن قبول المشورة وغيرها مِن الصفات الهجائية التي أطلقها الباحث دون خطام ولا زمام؛ لكنه يقوم على تفسير سياسيّ لأحداث "30 يونيو"، وما وقع بعدها يختلف عن التفسير الذي قدَّمه الثوار والجيش؛ وهذا الأمر يعني بشكل أكبر خلاف ما ذكره الباحث من عدم المرونة، بل عدم المرونة هو في عدم وضع مثل هذه الاعتراضات في مكانها الصحيح؛ بل وعدم إيجاد تفسير لها سوى التفسير السلبي.

أنتهي هنا مِن التعليق على رسالة هذه الورقة لأخلص إلى النتائج التالية، وهي:

1- إن محاولة الخلط بيْن الجماعات الإرهابية التكفيرية وبيْن السلفية، عمل مرفوض فكريًّا، وساقط علميًّا، وواضح منه الإغراض والسّير وفق أجندة عالمية لمحاربة السلفية.

2- السلفية استطاعت إقامة دولة إسلامية لم تحل إسلاميتها وسلفيتها بيْن أن تعطي المواطنين على اختلاف توجهاتهم حقوقهم الفكرية والعملية، والعلمية والمادية، دون أن يؤثر ذلك على انتمائها الديني والسلفي، وأعني بها المملكة العربية السعودية؛ بل نقول بثقة: "إن السعودية هي أكثر الدول الإسلامية نجاحًا في ذلك، بالرغم مِن كون معظم الدول الإسلامية والعربية نشأت على أفكار ودعايات تتضمن حقوق المواطنة والعدالة، والحريات والديمقراطية، ومع ذلك لم تقدِّم لمواطنيها مِن ذلك إلا الزهيد، ومنها مَن جلبت لمواطنيها الضياع والحروب والدمار.

3- السلفيون في جميع الدول الإسلامية "وغير الإسلامية" مثال للانسجام مع الأنظمة، كما أنهم مثال للقدرة العجيبة على الاحتفاظ بشخصيتهم دون أن يكون لهذا الحفاظ تبعات خارجة عن النظام، وأي ردود فعل ناتجة عن موجات التضييق عليهم ومحاربتهم إعلاميًّا؛ لم تخرج أبدًا عن الحجم الطبيعي، كما أنها بقيت ردود فعل فردية لا تمثل الجماعة.

وهنا أنتقل إلى المناقشة العلمية لما أورده الباحث مِن معلومات حول السلفية والصوفية، ومِن مقارنات بينهما، وأبدأ أولًا:

تصريحات "علاء ماضي أبو العزايم" شيخ الطريقة العزمية:

نقل الباحث عن "علاء ماضي أبو العزايم" شيخ الطريقة العزمية الصوفية قوله: "إن بعض التيارات السلفية تكفر الصوفية، وتتعمد بثّ الشائعات، وعرض اقتراحات مثيرة للجدل؛ حتى يفسدوا على الصوفية موالدهم...".

هكذا نقل الباحث، لكن الحقيقة: أن علاء أبو العزايم لم يقل: "بعض تيارات السلفية"؛ بل كان حديثه شاملًا لجميع السلفيّين؛ فوفقًا لصحيفة اليوم السابع بتاريخ: "10/ 4/ 2018م" قال أبو العزايم ردًّا على السؤال عن تحريم السلفيين للاحتفال بالمولد: "إن هؤلاء ما هم إلا مجموعة لنشر الفتن في المجتمع، وهم يحرمون كل شيء؛ لأنهم إرهابيون، ولا يريدون أي نشر للتسامح ونبذ العنف، وهم يريدون أن تكون مصر غارقة في الدماء والإرهاب بشكل مستمر!".

وفي تاريخ: "26/ 4/ 2018م" نشرت اليوم السابع قول أبو العزايم ردًّا على ياسر برهامي القيادي في حزب النور السلفي: "إن السلفية هم المنهج الإرهابي الذي خرج مِن تحت عباءته كل الدواعش!".

إذن فاتهامات أبو العزايم ليستْ لبعض التيارات السلفية، بل هي لكل السلفيين، وبالأخص التيار المشارك في العمل السياسي، والذي يمتلك تمثيلًا في البرلمان المصري، والذي حصلت قائمته الانتخابية على قرابة مليون صوتٍ (انظر مقال: تحليل نتائج حزب النور، صوت السلف، الأحد 3/4/2016م) منخفضة عن قائمة الأكثرية في البرلمان -والتي شارك فيها أكثر من خمسين حزبًا سياسيًّا في مصر- بمائة ألف صوت فقط، وهو الحزب الذي لم يُعرف عنه ولا عن أيٍّ مِن قواعده المشاركة في أي عمل إجراميٍّ؛ كل ذلك يبيِّن مدى التجني الذي مارسه أبو العزايم؛ وهو عوضًا عن أن يرد على النقد العلمي الذي وجهه السلفيون لإقامة الموالد؛ كأن يبين أدلة مشروعية هذا العمل مِن الكتاب والسُّنة، وأفعال الصحابة أو أفعال العلماء مِن القرون الثلاثة؛ عوضًا عن ذلك قام بالاتهام بالتكفير والإرهاب وغيرها مِن التهم التي يعتبر إطلاقها دون دليل جريمة شرعًا وقانونًا!

فالذي يريد تفريق المجتمع حقًّا وإثارة الفتن فيه هو ذلك الذي يتّهم شريحة كبيرة منه عبرت صناديق الانتخابات عن قوتها الفائقة وشعبيتها مرتين: الأولى: حين حصلت على ربع مقاعد البرلمان في انتخابات ما بعد "ثورة 25 يناير"، والأخرى حين حصلت على ثاني عددٍ مِن الأصوات في الانتخابات البرلمانية بعد "ثورة 30 يونيو"؛ ولم يحل دون أن تكون القوة الأولى في البرلمان المصري سوى نظام القوائم الانتخابية الذي ينصّ على أن تفوُّق قائمة على أخرى بصوتٍ واحدٍ يقضي بإسقاط القائمة الأخرى بأسرها، مهما كانت حصيلتها مِن الأصوات!

فمَن يتّهم دون مبالاة بالإرهاب والتكفير فئة بهذا الحجم هو مَن يريد تقسيم المجتمع وإثارة الفوضى؛ أما مَن ينتقد إحدى الممارسات نقدًا علميًّا؛ فهذا الذي يعبّر عن المواطنة الحقيقية التي تكفل حرية التعبير في نقد الممارسات الخاطئة، والتي هي إحدى مقررات الدستور والنظام الإعلامي في مصر.

علاء ماضي والتكفير:

صحيح أن علاء ماضي ليس موضوع الورقة محلَّ نقدنا في هذا الرد؛ لكن تصدير الورقة بتصريحه، وانتهاء الباحث إلى نتيجة تعني إقرار ما أدلى به علاء ماضي، بل والزيادة عليه؛ كل ذلك يحتم علينا تنبيه القارئ إلى حقيقة الميول الفكرية لهذا الرجل، فما موقفه مِن التكفير حين يتّهم مخالفيه بالتكفير؟

علاء ماضي هو مؤلف كتاب: (يهود أم حنابلة؟!) الصادر عن دار الكتاب الصوفي عام 1999م، والواقع في 312 صفحة؛ وقد كان اسم الكتاب: (يهود لا حنابلة)، لكنه استمع إلى رأي الدكتور عبد العليم شلبي والذي اقترح عليه باستبدال (أم) بـ(لا)؛ كما صرَّح المؤلف بذلك في لقائه بقناة العالم الإيرانية سنة 2010م (اللقاء مفرَّغ منشور في عدد من المواقع، منها: موقع الغدير الشيعي بتاريخ 5/ 1/ 2010م)، والكتاب عبارة عن مجموعة أكاذيب وترهات ينتهي منها إلى أن السلفيين كلهم ودون استثناء لا فرق بينهم وبين اليهود!

إذن مَن التكفيري؟!

ومَن الذي يفرق المجتمع؟!

هل هو مَن يناقش بعلميّة ويطرح التساؤلات حول مدى مشروعية ممارسة بشرية قابلة للنقد؛ كإقامة مولد في القاهرة للسيدة زينب، أم مَن يؤلّف كتابًا يصف ملايين مِن أبناء المدرسة السلفية منذ عهد ابن تيمية -أي مِن القرن السابع- حتى اليوم يصفهم بأنهم يهود، ويؤلف في ذلك كتابًا، ويؤلِّب عليهم طائفة مِن المجتمع ليخلَّ بالسِّلم والأمن العامّ؟! 

ولأن الموضوع ليس خاصًّا بعلاء ماضي أكتفي مِن الحديث عنه بهذا القدر، وأظنه قدرًا كافيًا في بيان حقيقته ومدى لدده وفجوره في الخصومة، وبُعده كلَّ البعد عن المنهج العلميِّ، وعن مسالك المنصفين والمعتدلين.