الصبر بيْن الاستسلام للواقع والتسليم لله

  • 264

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد وردت كلمة الصبر ومشتقاتها في القرآن الكريم في مائة وثلاثة مواضع، كقوله -تعالى-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف:35)، وكقوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153).

والصبر مِن الإيمان في الذروة، وفي الأثر: "الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر"، وهو بلا شك مِن أعمال القلب والجوارح كذلك، غير أن معنى الصبر ومفهومه قد يختلف مِن شخصٍ لآخر؛ فبعض الناس فهموا خطأ أن الصبر نوع مِن الاستسلام للأمر الذي وقع أيًّا ما كان؛ إذ لا حيلة في دفعه فلا مناص مِن الخضوع له! وليس كذلك بالطبع، فإذا كان الصبر مِن الإيمان في الذروة بمكان وهو مِن أعمال القلوب والجوارح، فإذن لابد مِن أن يكون معه عمل وإلا كان نوعًا مِن المذلة لواقعٍ لا يرضاه المرء غير أنه استسلم له، والصبر الذي يصاحبه العمل ويتبعه هو الصبر الذي علَّمه أنبياء الله أقوامهم، فها هم بنو إسرائيل تعرضوا لقهر فرعون مرتين قبْل مبعث موسى نبيًّا، وبعد مبعثه لهم.

ففرعون كان يذّبَح الذكران ويستحيي الإناث ليستخدمهم، وذلك مِن قبل ولادة موسى الكليم -صلوات الله وسلامه عليه-، وبنو إسرائيل لم يكونوا قادرين على تغيير ذلك الواقع المؤلم، بل لم يحاولوا تغييره ولم يعرفوا الطريق لتغييره؛ فاستسلموا لهذا القهر، وصبروا صبر الخانع الذي لا حيلة له، وها هم يتعرضون لنفس القهر وذات الحكم بعد مبعثه -صلى الله عليه وسلم- حين ردَّ فرعون على ملئه قائلًا لهم: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف:127)، فعاد فرعون إلى الخطة القديمة التي هي في نظره أمعن في الإذلال والبطش والخضوع، لكن الأمر الآن تغير؛ فموسى -عليه السلام- عاد إلى بني إسرائيل بالرسالة والنبوة والتأييد مِن الله، فقال بنو إسرائيل لموسى: (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) (الأعراف:129)، فرد عليهم: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا) (الأعراف:128).

وهنا الصبر لن يكون كالحال الأول، فمعه الإيمان الذي يربي عليه موسى -عليه السلام- بنو إسرائيل، ومعه العلم الذي أوحاه الله -عز وجل- له في رسالته لهم "التوراة"، ومعه العمل الذي سيقوم به بنو إسرائيل أنفسهم مِن صلاةٍ في بيوتهم وتربية لأبنائهم، ومعه دعوة موسى لهم، وتعاهده إياهم وحركته بينهم، وكل ذلك -بلا شك- سيقوي اليقين في القلوب بحتمية انتصار الحق على الباطل، وكل هذه أسباب مِن أسباب النصر، وهذا هو الصبر الذي ربى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في مكة في العهد الأول (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (النساء:77).

ورغم الإيذاء الشديد الذي تعرض له النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن قومه في مكة وتعرض له أتباعه الأُول، وقد كانوا مِن المستضعفين الفقراء أغلبهم؛ إلا أنه كان يأمرهم بالصبر فيمر على آل ياسر وهم يُعذبون، فيقول: (صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني)، ويأتيه خباب يشكو له فيقول: (وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (رواه البخاري).

وكان مع ذلك كله يعلِّم أصحابه الصلاة في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ويتلو عليهم ما يُوحى إليه مِن القرآن ويعلمهم الإيمان، ويأمرهم بالهجرة إلى الحبشة مرتين، ويرتب خروجهم مِن مكة وطريق هجرتهم، والسفن التي تحملهم، ويخرج للملأ يدعوهم ويصلي في الكعبة أمامهم، ويذهب للطائف ويَعرض نفسه على القبائل ويدعو الناس في الموسم؛ كل ذلك وهو صابر محتسب يأمر أصحابه بالصبر والاحتساب، فالصبر المحمود، بل المأمور به لا يعني الرضا بواقعٍ مريرٍ أو الاستسلام له، وإنما يعني المثابرة والمحاولة والبذل والعمل مع تحمل ما لا يستطيع الإنسان دفعه عن نفسه دون ترك السعي والعمل.

وهنا ندرك حقـًّا أن مَن لديه عمل بنائي إيماني يقوم به ببناء نفسه وأسرته ومجتمعه قد يتحمل أنواعًا مِن الأذى يصبر عليها ولا يرضى بها، ويسعى قدر الطاقة في تغييرها بالبناء الحقيقي للإيمان موقنًا بأن العاقبة للمتقين، والنصر للمؤمنين الصابرين.

ومِن هنا نستطيع فهم قوله -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) (البقرة:45)، وقوله -تعالى-: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ , وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يَسِّرَا) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني)