السلفية والصوفية: نصحٌ بعلم، وحكمٌ بعدل (5)

  • 146

 رد علمي على ورقة بعنوان: "السلفية والصوفية، عداء لا ينتهي وحرب دائمة الاشتعال!"

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الصوفية والسلفية وفكرة الاصطفاء: 

في كتاب الله -سبحانه وتعالى- نصَّ الحقُّ -عز وجل- على خيرية أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقال -عز مِن قائل عليمًا-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران:110)، فالسلفيون يؤمنون بكون أمة سيّدنا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- خير أمة أخرجت للناس، وأن الإسلام هو دين الله الحق الذي لا يقبل الله مِن الخلق دينًا غيره، كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، فالاصطفاء الذي هو معنى خيرية أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكون دينها الإسلام هو الدين الحق الخالص الذي لا يقبل الله -تعالى- غيره - هو ما يؤمن به السلفيون أشد الإيمان، ومعهم في ذلك نصوص الوحيين.

كما يؤكد السلفيون: أن ما يدعون إليه هو الإسلام الذي اصطفاه الله لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما اصطفاه لآل إبراهيم ويعقوب مِن قبْل، قال -تعالى-: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة:132)، ولا يرون الانتقاص منه ولا الزيادة فيه؛ لأن النقص والزيادة يخرجان العبد مِن الاتباع الذي أمر الله به حين قال: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران:31)، وإذا كانت هذه الأمة إنما اكتسبت الخيرية بالإسلام، فبقدر ما تكون مِن الاتباع يكون حظها مِن الخيرية بعدًا وقربًا؛ فهذا ما يؤمن به السلفيون؛ أما أن يكون لشيوخهم وآحادهم وجماعتهم اصطفاء خاصٌّ مِن الله بغير هذا الاعتبار فهذا ما ينكره السلفيون؛ لأن القول به مِن الافتراء على الله والقول عليه بغير علم، (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة81-82).

هذا هو المعيار الذي أمرنا الله -تعالى- أن نتخذه وهو العمل؛ ومع العمل الصالح لا يجزم العبد بقبول ولا رد، بل يطمع برحمة الله ويسأله مِن فضله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ) قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لاَ، وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ) (متفق عليه).

أما الصوفية فهم ينصون على كونهم المصطفين مِن لدن الله -عز وجل- دون غيرهم مِن المسلمين، ومِن نصوصهم في ذلك: ما قاله أبو القاسم القشيري في مقدمة رسالته التي تقدمت الإشارة إليها: "جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضّلهم على الكافة مِن عباده بعد رسله وأنبيائه -صلوات الله وسلامه عليهم-، وجعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم مِن بين الأمة بطوالع أنواره، فهم الغياث للخلق، والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق، صفاهم مِن كدورات البشرية، ورقّاهم إلى محل المشاهدات بما تجلى لهم مِن حقائق الأحدية، ووفقهم للقيام بآداب العبودية، وأشهدهم مجاري أحكام الربوبية... " (مقدمة الرسالة القشيرية)، فانظر إلى هذا الغلو في دعوى الاصطفاء.

وقال أبو بكر الدينوري -وقد سئل عن علامة الصوفي-: "أن يكون مشغولًا بكل ما هو أولى به مِن غيره، ويكون معصومًا عن المذمومات" (طبقات الصوفية، للسلمي، ص: 109).

وهذا كله بخلاف ما يقوله السلفيون مِن نفي العصمة عنهم، وعن علمائهم وعُبّادهم، ومِن ذلك قول ابن تيمية: "بخلاف غير الأنبياء، فإنَّهم ليسوا معصومين كما عصم الأنبياء/ ولو كانوا أولياءً لله" (مجموع الفتاوى، 2/ 373).

المظهر والجوهر:

حديث الباحث عن كون السلفيين يعتنون بالمظهر دون الجوهر، وباللحى والنقاب، وينقل أن هذه التهمة موجهة مِن الصوفيين للسلفيين، وهي تهمة لم ينقل الباحث لها مستندًا ولا دليلًا ولا مثالًا، وإنما هو كلام مرسل! ومع ذلك فلا مانع أن نتحدث قليلًا عن رأي السلفيين في المظهر والجوهر؛ فهما مصطلحان حادثان لم تأتِ بهما الشريعة، وإنما جاءت الشريعة بالإسلام والإيمان والإحسان، والثواب والعقاب، والفسق والكفر، والعدل، وغيرها مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولم تأتِ الشريعة بالأمر بالعناية ببعض أوامرها وترك الآخر، بل أمر الله -تعالى- بالاتباع مطلقًا، والامتثال مطلقًا، فقال -سبحانه-: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) (الأعراف:3)، وقال -تعالى-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران:132).

فالعباد مأمورون بالطاعة والاتباع في كل شيء، وليس في شيءٍ دون آخر، ولا بالجواهر دون الظواهر! وكل ما أمر الله به أو نهى عنه فالمسلمون مأمورون بالامتثال فيه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر:7).

حقًّا، هناك فروق في التشريعات في قدر الوجوب والثواب والتحريم والإثم، لكن ذلك لا يعني إغفال بعضها بحجة كونه مظهرًا، والعناية بالآخر لكونه جوهرًا؛ فهذا التقسيم لأحكام الشريعة تقسيم حادث، لا حرج فيه لو اقتصر على مجرَّد التّوصيف، أما لو بُني عليه أن ما كان مظهرًا يمكن الاستغناء عنه، وأنه لا أهمية إلا لما هو جوهر؛ فهذا المعنى فاسد، وفيه مِن الضرر والذريعة إلى الانحلال والاستهانة ببعض أحكام الشرع ما فيه، والله أعلم.

ومما يؤكد ذلك ما قاله ابن تيمية: "إن الظاهر لابد له مِن باطن يحقّقه ويصدّقه ويوافقه، فمَن قام بظاهر الدين مِن غير تصديق بالباطن فهو منافق، ومن ادّعى باطنًا يخالف ظاهرًا فهو كافر منافق، بل باطن الدين يحقق ظاهره ويصدقه ويوافقه، وظاهره يوافق باطنه ويصدقه ويحققه، كما أن الإنسان لا بد له مِن روح وبدن، وهما متفقان، فلا بد لدين الإنسان مِن ظاهر وباطن يتفقان، فالباطن للباطن مِن الإنسان، والظاهر للظاهر منه، والقرآن مملوء مِن ذكر أحكام الباطن والظاهر، والباطن أصل الظاهر" (مجموع الفتاوى، 13 / 268).

الصوفية والسلفية وابن تيمية:

أشار الباحث إلى موقف ابن تيمية مِن الصوفية وقال: "إنه شنَّ عليهم حملة شعواء لا هوادة فيها".

والحقيقة أن شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ردَّ على كل الطوائف والفرق التي خالفت أهل السُّنة والجماعة، ولم يرد على الصوفية وحسب؛ وموقفه -رحمه الله- كان موقف الداعية المخلص لله الذي يخاطب المخالفين بعلم وعدل؛ وقد رد على أكثر ما أحدثه الصوفية على اختلاف درجاتهم، وبيَّن ما وافقوا فيه الفلاسفة اليونان مِن أمور كفرية، وما وافقوا فيه أمم الهند وغيرها مما يجب الحذر منه لكونه مخرجًا مِن الملة؛ كالحلول والاتحاد، وبيَّن مَن أقوالهم وأفعالهم ما هو بدعة غير مخرجة مِن الدين، لكن حملهم عليها عبادة الله -تعالى- بما لم يشرع؛ وكان في كل ما كتبه لازمًا العدل والإنصاف، والثناء على بعض مشايخهم بما يستحقون، ونقدهم فيما هو فيهم محل نقد، واستخدم مِن العبارات ما يتناسب مع كل مقال علمًا وعدلًا وأدبًا؛ وفي هذا الرد العاجل لا يمكننا استعراض ذلك والبرهنة عليه، لكننا نحيل إلى كتب ابن تيمية في الرد على الصوفية، فسوف يجد المنصف فيها كل ما ذكرناه؛ بل سيجد أننا مقصرون في إنصافه والثناء عليه.

ومِن هذه الكتب:

1- الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق.

2- الاستغاثة في الرد على البكري.

3- الرد على عدي بن مسافر.

ومِن الكتب التي ألفت عن موقف ابن تيمية مِن الصوفية، ويمكن للمنصف الاسترشاد بها عن مسلكه العادل والعلمي معهم: كتاب "ابن تيمية والتصوف" للدكتور "مصطفى حلمي".

أما موقف الصوفية مِن ابن تيمية فأصدق مَن يعبِّر عنه الحقبة التاريخية التي عاشها ابن تيمية معهم، وكيف جنحوا عن مناظرته بالدليل مِن الكتاب والسُّنة إلى المشاركة في التأليب عليه، والسعي في سجنه مرارًا، كانت آخرهن سجنته التي مات فيها في سجن القلعة بدمشق -رحمه الله رحمة واسعة-.