تأملات في حجة الوداع (2)

  • 216

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فأَوَّل ما نَلحظه في حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، في إسناده؛ فإنه رواه مسلم مِن رواية جعفر بن محمد بن عَلِيّ عن أبيه عن جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وجعفر: هو جعفر الصادق، وهو الإمام السادس عند الشيعة الإمامية، وإليه ينسبون؛ فهم جعفرية نسبة إلى جعفر الصادق، وأبوه هو محمد الباقر بن عَلِيّ زين العابدين، وهو الإمام الخامس عندهم، وهو الذي روى الحديث عن جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وهذا يبيِّن لنا منزلة أئمة أهل البيت عند أهل السُنَّة والحديث؛ فهم مِن أهل السُنَّة والجماعة العُدُول الثقات الأثبات الحُفَّاظ، حاشاهم أن يكون أحدٌ منهم مِن الروافض الكذابين الذين بنوا مذهبهم على الكذب على هؤلاء الأئمة خاصة جعفر الصادق، ومحمد الباقر.

والحديث كذلك يبيِّن لنا منزلة الصحابة عند هؤلاء الأئمة؛ فمحمد الباقر في شبابه يطلب العلم مِن الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم-، ومنهم جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-.

وليس بيْن أهل البيت والصحابة عداوة أو اختلاف في اعتقادٍ أو منهجٍ؛ بل هم متحابون متآلفون، وتأمل كيف فعل جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مع محمد بن علي لما عَرَّفه بنفسه؛ فإنه -مِن دون رفقائه- حَلَّ زِرَّه الأعلى ثم زِرَّه الأسفل، ثم وضع يده على صدره تأنيسًا له وملاطفة وتقديرًا له؛ لكونه مِن أهل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ورَحَّب به الترحيب الخاص، فهو ابن أخيه في الله، وأبوه زين العابدين، وجَدُّه الحسين وعَلِيّ بن أبي طالب كلهم إخوة في الله لجابر بن عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وفتح له باب السؤال عما شاء، تأكيدًا على الاهتمام بطالب العلم السائل عنه خصوصًا إذا كان مِن أهل الفضل والنسب الشريف.

وهذا يؤكد سلامة الصدور والألسنة بيْن الصحابة وآل البيت -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم جميعًا-؛ فتبًا لأهل الحقد والغل والسب واللعن؛ فإن أعمالهم أليق بهم، (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (النور:26).

ثانيًا: في قول جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَاجٌّ": دليل ظاهر على أن الحج واجب على التراخي؛ لأن فرض الحج كان إما في سنة سِتٍّ مِن الهجرة في الحديبية، وفيها نزل قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (البقرة:196)، فالدلالة عنه واضحة جدًّا؛ إذ أَخَّر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحج سنة سبعٍ وثمانٍ وتسعٍ، مع تَمَكُّنه مِن الحج بعد فتح مكة سنة ثمانٍ ولم يحج، وسنة تسعٍ ولم يحج، ولم يكن في وقت الحج في غزوات، وإما أن يكون الحج قد فُرض سنة تسعٍ على الوفود، عند قدوم وفد نصارى نجران، ونزول سورة آل عمران التي نزل صدرها في قدومهم، وفيها قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (آل عمران:97)، ومع ذلك لم يحج -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في السنة التاسعة، وإنما أمَّر أبا بكر على الحج، وأقام للناس حجهم.

وأما الاعتذار بأن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يحج لوجود المشركين والعراة؛ فاعتذار غير صحيح؛ لأن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقام للناس الحج بإمارة أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ولو كان غير مشروع لما أرسل أبا بكر، ولو كان وجود منكرات في الحج مسقطًا لوجوبه لما وجب على الناس حج أبدًا؛ لوجود مَن يرتكب المنكرات فيه مع تفاوت درجاتها.

وأبعَد منه قول مَن قال: إن حجة أبي بكر وقعتْ في ذي القعدة؛ احتجاجًا بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجة الوداع: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) (متفق عليه)؛ فهذا قول باطل يخالف صريح القرآن، قال -تعالى-: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (التوبة:3)، وقد كان ذلك يوم النحر مِن سنة تسعٍ، إذ نودي فيها: (أَلاَ لاَ يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) (متفق عليه)، (وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

وكيف يتصور أحدٌ أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يُقِرُّ النسيء الذي ابتدعه المشركون زيادة في الكفر، ويبني عليه الأحكام مع تبديل الشهور عن حقيقتها؟! وإلا فقد صام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رمضان تسع سنوات متتالية دون تغيير، وكذا اعتماد الأشهر الحُرُم قبْل حجة الوداع في تحريم القتال، وغيرها مِن الأحكام، وإنما دَلَّ الحديث على أن الأشهر التي خلقها الله -سبحانه- يوم خلق السماوات والأرض هي التي كان عليها عمل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وذلك مِن فجر الإسلام لم يتغير، ولا يلزم مِن الحديث أن الأعوام السابقة على حجة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "حجة الوداع" كانت على غير ذلك مِن نسيء؛ بل فعله أهل الجاهلية قبْل الإسلام فأبطله الله بالإسلام مِن أول ما عمل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الشهور القمرية منذ بعثته.

فالخلاصة: أن تأخير رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للحج سنة تسعٍ دليل واضح على أن الحج فُرض على التراخي، وإن كان الاستحباب المؤكد: "التعجيل"؛ فإن الإنسان قد يمرض، أو يفقد راحلته -وسيلة المواصلات-، أو أن يُقطع الطريق، أو غير ذلك مِن أعذار، وتأكيد الاستحباب هو الذي تُحمل عليه الأدلة الدالة على تعجيل الحج.

وهذا يدل على أن مَن نوى أن يحج قبْل موته لم يأثم، فضلًا عن أن يُكَفَّر، كما يلزم مَن يقولون بتكفير تارك المباني الأربعة للترك المجرد كالتكاسل؛ فإن رجعوا إلى القول بالتكفير بالعزم على أن لا يحج حتى يموت كما ذكره ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- لم يكن هذا تكفيرًا بالترك المجرد؛ بل بالعزم على عدم الحج، ولا دليل عندهم على ذلك إلا مَن كان آبيًا أو مستكبرًا أو مستحِلًا لترك الحج، أي: جاحدًا لوجوبه؛ ولا نزاع في كفر هذا، ومَن يُكَفِّر بالترك المجرد إنما يحتج بأن الحج مِن أركان الإسلام؛ فمَن لم يأتِ به كان كتارك الشهادتين، ومَن عزم أن يحج فمات قبْل أن يحج تاركًا له؛ فيلزمهم تكفيره؛ وهم لا يملكون رد ذلك.

وقد قالت طائفة كبيرة مِن أهل العلم، منهم: الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- ومَن وافقه، بأن الحج واجب على التراخي؛ فمن عزم أن يحج قبْل أن يموت فهو غير آثم.

وقوله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَاجٌّ؛ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ": دليل على القاعدة العامة الشاملة التي تشكِّل حياة المسلم باتباع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كل أقواله وأفعاله؛ فنصلي كما رأيناه يصلي، ونحج كما حج، ونأخذ عنه مناسكنا، ونفعل كما فعل؛ فإن الاتباع لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو مِن أعظم أسباب حب الله -تعالى- للعبد، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:31، 32)، وهذا الاتباع هو تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

فلابد أن يطلب المسلم علم سُنَّة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا يكتفي برفع الشعار، أو الاكتفاء بالهيئة الظاهرة -كاللحية والقميص مثلًا- ليكون سُنِّيًّا كما هو مصطلحٌ عند الناس، بل لابد أن يتعلم السُنَّة ويطلب فهمها؛ ليعمل بها ويدعو إليها في كل شئون الحياة؛ في العقيدة، والعبادة، والمعاملات، والسلوك والخُلُق، والشأن العام، والشأن الخاص، شأن المجتمع والدولة؛ ولا عِزَّ لأمة الإسلام إلا باتباع السُنَّة علمًا وعملًا وسلوكًا.

وقد رصد المؤرخون: أن انتشار علوم السُنَّة مرتبط بانتصارات المسلمين، كما حدث في زمن "صلاح الدين" قبْل تحرير "بيت المقدس" مِن عودة المسلمين إلى قراءة وسماع أحاديث "البخاري" و"مسلم" في مساجدهم في مصر والشام، بأمر السلطان "صلاح الدين" بعد انقطاع نحو ثلاثة قرون في مصر؛ بسبب أهل الزندقة مِن الباطنية العبيديين المعروفين بالفاطميين، سقطت خلالها القدس في أيدي الصليبين، وعندما عاد الناس إلى السُّنة عادت القُدْس -بحمد الله تبارك وتعالى-، والعكس بالعكس؛ فإذا غلبت علوم أهل البدع، وغابت علوم السُنَّة وغاب العمل بها: انهزم المسلمون وغلبهم أعداؤهم على بلادهم ومقدساتهم.

فاللهم يَسِّر للمسلمين العودة إلى سُنَّة نبيك -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ورُدَّ عليهم القُدْس والمسجد الأقصى، وسائر بلادهم المحتلة.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.