لبيك لا شريك لك لبيك

  • 320

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما أن تمر علينا هذه الأيام المباركات كل عام؛ إلا وتهب علينا نسائم الإيمان، ويتفيأ العبد ظلال هذه المشاهد العظيمة مِن حجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكثيرة هي الدروس والعِبَر مِن حجة سيد البشر -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام-.

ومنها درس عظيم مبارك، وهو إظهار البراءة مِن الشرك وأهله، وعما كانوا عليه مِن عادات باطلة اخترعوها، وبدلوا فيها دين إبراهيم -عليه السلام-؛ فلقد كان حريصًا أشد الحرص -عليه الصلاة والسلام- أن يفارق ويبرأ مما كان عليه المشركون، ويظهر ذلك في مشاهد عديدةٍ مِن حجته تحقيقًا لقوله -صلى الله عليه وسلم- في شعار الحج: "لبيك لا شريك لك لبيك".

وهاكم عشرة مِن هذه المشاهد في حجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أظهر فيها البراءة مِن الشرك وأهله.

المشهد الأول:

لما نزل فرض الحج على النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة السادسة أو التاسعة -على الخلاف المشهور- أرسل أبا بكر -رضي الله عنه- على رأس ثلاثمائة مِن أصحابه عُرفوا بالمؤذنين، وأردفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لينادوا في الناس            في موسم الحج للعام التاسع، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى: أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ فِي أَهْلِ مِنًى بِبَرَاءَةَ، وَأَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ" (رواه البخاري).

وكان هذا المشهد بداية المشاهد في حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه إعلان بالبراءة مِن الشرك وأهله وما كانوا عليه، ولقد عُرفت هذه السورة بسورة براءة مِن أجل هذا وفيها: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) (التوبة:28)، وكان هذا تمهيدًا لأعظم حجة عرفتها البشرية، وهي حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

المشهد الثاني:

في يوم الأحد 26 مِن ذي القعدة في العام العاشر مِن الهجرة ركب النبي -صلى الله عليه وسلم- القصواء مِن ذي الحليفة حتى إذا استوى عليها على البيداء حمد الله، وسبَّح وكبَّر، ثم قال: "لبيك اللهم حجة في عمرة، لبيك اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، فتأمل قوله في تلبيته وشعار حجته: "لبيك لا شريك لك لبيك" ثم يكرر: "لا شريك لك"، أي إجابة لك بعد إجابة، وحدك لا إجابة لأحدٍ غيرك، ونبرأ إلى الله أن نجيب في عبادتنا أحدًا سواك.

وتنزل عليه جبريل -عليه السلام- فقال: (يَا مُحَمَّدُ، مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)؛ فاهتزت الصحراء وتجاوبت الجبال بضجيج الملبين، وهتافهم بتوحيد رب العالمين: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك إله الحق، لبيك ذا المعارج، لبيك وسعديك، والخير في يديك والرغباء والعمل".

- زحفت تلك الجموع على هذه الحال مِن هتاف بالتلبية، وعجيج بالذكر، وإعلان بشعار الحج، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يلبي والناس معه يزيدون فيها وينقصون، وهو يقرهم ولا ينكر عليهم؛ فقد جاء عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء مِن أنواع التلبية، فجاء عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك، مرغوبًا أو مرهوبًا، لبيك ذا النعماء والفضل الحسن"، وجاء عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَبَّيْكَ اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ) قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَزِيدُ فِيهَا: "لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ" (رواه مسلم).

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَذَكَرَ التَّلْبِيَةَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ "ذَا الْمَعَارِجِ" (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).

 ويروى عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- كذلك أنه كان يقول في تلبيته: "لبيك حقًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا" ورواه الدارقطني في علـله، ورواه مرفوعًا وموقوفًا، ورجح وقفه. وإذا لزم الحاج الملبي ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو أولى.

وقد بُحَّت أصوت الصحابة -رضي الله عنهم- مِن لزوم التلبية، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما بلغنا الروحاء حتى سمعتُ عامة الناس قد بحت أصواتهم مِن التلبية" (السنن الكبرى للبيهقي).

المشهد الثالث: "العمرة في أشهر الحج":

وهو مِن أعظم مشاهد البراءة مِن أحوال المشركين الباطلة حيث إنهم كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج مِن أفجر الفجور، وقد عبَّر جابر عن هذا حينما قال: "لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ" (رواه مسلم)، أي لا نعرف العمرة في أشهر الحج؛ وإلا فهم يعرفون العمرة قطعًا قبْل الإسلام، وقبل حجة الوداع؛ فلذلك اجتهد رسول الله في مخالفتهم في هذا.

أولًا: بالنسبة له، فقد حج قارنًا على الصحيح فقال: "لبيك اللهم حجة في عمرة"، وهو يقصد مخالفة المشركين والبراءة مِن عاداتهم الباطلة حيث أوقع العمرة في أشهر الحج.

ثانيًا: بالنسبة لأصحابه فلعظم الأمر عليهم تدرج معهم:

1- ففي الميقات بذي الحليفة خيَّرهم، فقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، فَلْيُهِلَّ(متفق عليه).

2- وعند سرف عرض عليهم لمَن لم يسق الهدي منهم أن يفسخوها إلى عمرة ولم يأمرهم، قالت عائشة -رضي الله عنها-: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَشْهُرِ الحَجِّ، وَلَيَالِي الحَجِّ، وَحُرُمِ الحَجِّ، فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ، قَالَتْ: فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: (مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الهَدْيُ فَلاَ)، قَالَتْ: فَالْآخِذُ بِهَا، وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَتْ: فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ وَكَانَ مَعَهُمُ الهَدْيُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى العُمْرَةِ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: (مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهُ؟) قُلْتُ: سَمِعْتُ قَوْلَكَ لِأَصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ العُمْرَةَ، قَالَ: (وَمَا شَأْنُكِ؟) قُلْتُ: لاَ أُصَلِّي، قَالَ: (فَلاَ يَضِيرُكِ، إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ، فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا(متفق عليه)، ولما قرب مِن مكة صلى الصبح وقال لأصحابه: (مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً) (رواه مسلم).

3- وجاءت لحظة الأمر بالفسخ بعد السعي عند المروة، فلما قضى سعيه أمر مَن لم يسق الهدي مِن أصحابه أن يحلوا مِن إحرامهم ويجعلوها عمرة؛ فتعاظم الصحابة -رضي الله عنهم- ذلك، وشق عليهم، حتى قال جابر: "كبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا"، فتعاظموه؛ لأنهم خرجوا مِن المدينة لا يذكرون إلا الحج، وقد لبوا به؛ فكيف يفسخونه إلى عمرة؟!

ثم كيف يؤدون العمرة في أشهر الحج وأيامه، وكانوا يرون في الجاهلية العمرة في أشهر الحج مِن أفجر الفجور؟!

ثم كيف يحلون ويتمتعون بما يتمتع به المحل وليس بينهم وبيْن يوم عرفة إلا أربعة أيام؟! حتى قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الحل؟ قال: (الْحِلُّ كُلُّه(متفق عليه)، قالوا: أيذهب أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيًّا؟!

وأما أنه شق عليهم؛ فإنهم يرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمامهم لم يحل، وإنما لزم إحرامه، وهم الذين أشربت قلوبهم حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحب متابعته فيما يأتي ويذر؛ ولذا تباطؤوا في إجابته طمعًا أن يشركوه في حاله التي هو عليها مِن عدم الحل، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- تباطؤهم وترددهم، فغضب مِن ذلك ودخل على عائشة تُعرف مِن حاله الغضب، حتى ظنت أن أحدًا آذاه وأغضبه، فقالت: مَنْ أَغْضَبَكَ، يَا رَسُولَ اللهِ؟ أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ، قَالَ: (أَوَمَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ، فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ -يا الله! مجرد التردد في أمره عليه الصلاة والسلام يغضبه، فما بالنا بترك أمره أو الصد عنه؟!- وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا سُقْتُ الْهَدْيَ مَعِي حَتَّى أَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَحِلُّ كَمَا حَلُّوا(رواه مسلم)، فطابت قلوبهم، وقرت أعينهم بمقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وحَلّوا وسمعوا وأطاعوا كما هو شأنهم أبدًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم.

المشهد الرابع:

قطع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطريق بيْن مكة والمدينة في ثمانية أيام، تعرض فيها لنَصَب الطريق ووعثاء السفر؛ ولذلك لما قرب مِن مكة بات قريبًا منها يستريح هناك، ويتهيأ لدخولها نهارًا؛ فبات عند بئر "ذي طوى" في المكان المعروف اليوم بجرول أو آبار الزاهر.

ودخل يوم الأحد 4 مِن ذي الحجة، فلما أصبح -صلى الله عليه وسلم- اغتسل ثم دخل مكة مِن ثنية كداء، وهي التي تنزل اليوم على جسر الحجون، وذلك ضحوة يوم الأحد جهارًا نهارًا؛ ليراه الناس فيقتدوا به، فأناخ راحلته -صلى الله عليه وسلم- عند المسجد، ثم دخل مِن الباب الذي كان يدخل منه يوم كان بمكة "باب بني شيبة"، فدخل -صلى الله عليه وسلم- الحرم، فإذا هو على ملة أبيه إبراهيم -عليه السلام-؛ ليس حول الكعبة صنم، ولا يطوف بها عريان، ولم يحج إليها مشرك؛ إنه يوم عز ونصر للإسلام وأهله، وبراءة مِن الشرك وأهله، فدخلها -صلى الله عليه وسلم- نهارًا جهارًا يراه جميع الناس.

المشهد الخامس:

طاف بالبيت سبعًا يرمل في الأشواط الثلاثة الأول مضطبعًا، ورَمَله ثلاثًا ومشيه أربعًا؛ تذكيرًا للمسلمين بإغاظة المشركين؛ فإن أول تشريع الرمل كان في عُمْرَة القَضِيَّة، فعن عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قال: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاَثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ" (متفق عليه)؛ وذلك أن المشركين جلسوا مما يلي الحجر، فكان ما بيْن الركنين لا يرون المسلمين فيه.

أما في حجة الوداع فقد رَمَل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِن الحجر الأسود إلى  الحجر الأسود، أي في الطوفة كلها، الطوافات الثلاث الأولى؛ فقد صارت سُنَّة مستقلة، وقد استشكل عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذلك بعد أن نفى الله الشرك وأهلَه، فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقول: "فِيمَ  الرَّمَلَانُ الْيَوْمَ وَالْكَشْفُ عَنِ الْمَنَاكِبِ؛ وَقَدْ أَطَّأَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ؟ مَعَ ذَلِكَ، لَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (رواه أبو داود وابن ماجه، وقال الألباني: حسن صحيح).

وبقيت سُنَّة الرَّمَل وسُنَّة الاضطباع، لتحيي في قلب المسلم قضية مخالفة المشركين وأهل الكفر وإغاظتهم، ولو بعد زوال السبب؛ لكي لا يتسلل إلينا هَوَان مداهنتهم ومشابهتهم وإرضائهم بحالٍ مِن الأحوال، قال -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ(التوبة:120)، والرَّمَل هو: الإسراع في المشي دون الجري مع تقارب الخطى، والاضطباع هو: كشف المنكب الأيمن، وإلقاء طرف الرداء على المنكب الأيسر؛ وهي هيئة تعين على الإسراع.

ولما فرغ مِن طوافه مشى إلى مقام أبيه إبراهيم وهو يقرأ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى(البقرة:125)، ثم صلى ركعتين فقرأ في الأولى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ(الكافرون:1)، وفي الثانية: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(الإخلاص:1)، فأي قصد للبراءة مِن المشركين وتعظيم التوحيد أعظم مِن هذا؟! فهاتان السورتان تفسران بوضوح معنى: "لا إله إلا الله"، فالأولى وهي: "الكافرون" تفسِّر شق "لا إله"، فنفى كل ألوهية لغير الله والثانية وهي "الإخلاص تفسِّر الشق الثاني: "إلا الله".

ثم عاد -صلى الله عليه وسلم- إلى الحجر فقبله، ومسحه بيديه ثم مسح بهما وجهه، ثم توجه إلى الصفا فصعده وهو يقرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ(البقرة:158)، أبدأ بما بدأ الله به، حتى نظر إلى البيت فاستقبله ورفع يديه الشريفتين وهو يهتف: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، وصدق عبده، وهزم الأحزاب وحده"، ودعا في مقامه ذلك ما شاء الله أن يدعو.

يستحضر هذا المعنى ويكرره: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، والله يعجز القلم والبيان أن يعبِّر عما يجيش في الصدر في هذا المشهد.

المشهد السادس:

- أشرقت الشمس على خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة "يوم عرفة"، وسار الركب الشريف مِن منى إلى عرفات، وجموع الحجيج تسير معه؛ سار -صلى الله عليه وسلم- ولا يظن قومه إلا أنه سيقف معهم في مزدلفة كما كان شأنهم في الجاهلية، حيث جعلوا لأنفسهم موقفًا خاصًّا يقفون فيه، ولا يقفون مع الناس في عرفة؛ إذ يرون لأنفسهم مكانة وتميزًا لجوارهم بيت الله، وأنهم بذلك لا يشاركون الناس في الوقوف في عرفات، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- "الذي جاء بدينه للعالمين؛ لم يجئ به لفئةٍ مِن الناس يميزهم، ولو كانوا قومه وعشيرته" - تجاوزهم وسار ليقف مع الناس؛ عملًا بقول ربه: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ(البقرة:199).

وهذا مشهد مِن مشاهد التبرؤ مِن الجاهلية ومظاهرها التي كانت لا زالت قابعة في بعض النفوس حديثة الإسلام.

المشهد السابع:

 وصل -صلى الله عليه وسلم- إلى نمرة، فإذا قبة قد ضربت له هناك، فجلس فيها حتى زالت الشمس، وركب راحلته القصواء، ثم نزل بها إلى بطن وادي عُرَنَة -وهو أرض دمثة فسيحة، يسهل اجتماع الناس عليها وجلوسهم فيها- فاجتمع الناس حوله في بطن الوادي، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على راحلته مشرف عليهم، أطاف به الناس فعرفته العيون، وأصاخت له المسامع، واشْرَأبَّت له الأعناق، وخفقت بحبه القلوب، تتعلق بمحياه، وتتلقف قوله؛ فتطاول -صلى الله عليه وسلم- للناس قد أمكن قدميه في الغرز، واعتمد على مقدم الرحل، وأشرف للناس ليخطبهم خطبة عظيمة، جمع فيها معاقد الدين، وعصم الملة، وتعظيم الحرمات، فدوى صوته بيْن أهل الموقف، حامدًا الله، مثنيًا عليه.

ثم عدد بنودًا تمثِّل دستور أمة الإسلام، وكان أول  بنود هذا الدستور القطيعة والبراءة مِن الجاهلية، وهي تشمل كل ما خالف الإسلام سواءً كان شركًا أو معصية بأحوالها وعاداتها وصورها: كربا الجاهلية، ودماء الجاهلية، وحكم الجاهلية، وحمية الجاهلية، وظن الجاهلية، إلخ، فقال: (أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) (رواه مسلم).

إن مكان الجاهلية بصورها وعاداتها، وتشريعاتها وقوانينها، ينبغي أن يكون تحت الأقدام وليس فوق الرؤوس، وهذا الموضع الذي ارتضاها لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان مِن عجاب هذا الموقف أن الذي كان يبلـِّغ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للناس، ويصرخ فيهم بمقاله هو "ربيعة بن أمية بن خلف!"؛ هذا الذي قتل أبوه في بدر هبرًا بالسيوف، وهو يقاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا ابنه يبلغ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويصرخ في الناس بكلماته! ألا إنها أنوار النبوة، وهدي الرسالة، أطفأت تراث الجاهلية في القلوب التي كانت تتوارث الحقد، وتستعر فيها حرارة الثأر، فتبدلت وعادت خلقًا آخر لما هطلت عليها فيوض النبوة؛ فـ(اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(الحج:5)، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إليهم مِن آبائهم وأمهاتهم وقلوبهم التي بيْن جوانحهم (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ(الأنعام:88).

المشهد الثامن:

لما تناهى نهار عرفة دعا بأسامة بن زيد ليكون ردفه، فتنادى الناس يدعون أسامة واشرَأبَّت أعناق الأعراب ينتظرون هذا الذي حظي بشرف ردف النبي -صلى الله عليه وسلم-، وظنوه رجلًا مِن كبار أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما فجأهم إلا وشاب أسود أفطس أجعد يتوثب ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يلتزمه مِن خلفه ليكون له -مِن بيْن أهل الموقف كلهم- شرف الارتداف مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال حدثاء العهد بالإسلام متعجبين: "أهذا الذي حبسنا ابتغاؤه؟!".

وكأنما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا الاختيار يعلن تحطيم الفوارق بيْن البشر، ويدفن تحت مواطئ راحلته النعرات الجاهلية، والفوارق الطبقية، والنزعات العنصرية؛ ليعلن بطريقة عملية أنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى.

المشهد التاسع:

- تنفس صبح يوم النحر وأضاءت خيوط الفجر الأولى، وقام -صلى الله عليه وسلم- مسارعًا إلى صلاة الفجر، فصلاها في غاية البكور في أول الوقت، ثم ركب راحلته وتوجَّه إلى المشعر الحرام؛ فرقى عليها فاستقبل القبلة ورفع يديه يدعو ويلبي، ويكبر ويهلل على حال مِن الضراعة والخضوع، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، وقال: (قَدْ وَقَفْتُ هَاهُنَا، وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

فتأمل قولته: (وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ)؛ فهذا المكان الذي أهلك الله فيه الكافرين الظالمين -أبرهة ومَن معه-، بل وطبق ذلك بنفسه فإنه لما وصل وادي محسر -بيْن مزدلفة ومنى- أسرع قدر رمية بحجر؛ لأن هذه أماكن مصارع الظالمين فلا يريد أن يطيل السير فيها، وهذا فعله حينما مرَّ بديار ثمود، وكل هذا مفارقة وبراءة مِن الكافرين والظالمين، وقارن بيْن هذا وبين مَن يتنزه فيها، ويستمتع ويمتع أولاده وأهله بها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

المشهد العاشر:

في وسط أيام التشريق حينما سأله أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: (وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ)، وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلاَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، شَيْئًا لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، ثم قال: (نَنْزِلُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الكُفْرِ) يُرِيدُ المُحَصَّبَ. (متفق عليه)، حيث قاسمتْ قريشًا على الكفر، وذلك أن بني كنانة حالفت قريشًا على بني هاشم أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم، ولا يؤوهم حتى يُسلِموا إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال عند ذلك: (لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ(متفق عليه).

إنه المكان الذي كان يومًا معقلًا للكافرين وهم يتقاسمون ويتعاهدون على كفرهم وظلمهم، وجاءت اللحظة التي ظهر فيها الحق وزهق الباطل: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء:81).

والحمد لله رب العالمين، والحمد لله أولًا وآخرًا.

اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأهلك الشرك والمشركين، وارزقنا حج بيتك الكريم.

اللهم أرنا مناسكنا وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.