الحق أحق أن يتبع

  • 183

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فارق عظيم بيْن الاتِّباع المبني على الحجة والبرهان، (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي) (الأنعام:57)، (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) (الجاثية:18)، (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) (المائدة:48)، وبيْن التبعية الجاهلية، التي هي في حقيقتها مجرد اتباع لأشخاصٍ بلا حجة ولا بينة، إلا كما قال فرعون لقومه: (مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر:29)، فسبيل الرشاد عنده شيء تابع لرأيه وهواه، لا على الدليل والبرهان.

ولذلك لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتحرجون مِن سؤاله، ولم يكونوا يرون في السؤال تنافيًا مع يقينهم بأنه رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- ينكر عليهم أن يسألوه ما يستبينون بها الحق، ويزدادون به يقينًا (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال:42).

بل مما يتعين على التابع مخالفة مَن يتبعه في مسألة -أو مسائل- إذا جانبه الصواب فيها، كما يجوز للتابع أن يخالف متبوعه في مسألةٍ مِن مسائل الاجتهاد يرى الحق في خلافه -إن كان التابع مِن أهل الاجتهاد- ولا تعني هذه المخالفة -بحال- لا الانتقاص، ولا الاحتقار، إذ "الحق أحق أن يتبع".

وقد استدرك ابن القيم بعض ألفاظ الإمام الهروي فقال: "في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير، يجبره حسن حال صاحبه وصدقه، وتعظيمه لله ورسوله، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له... شيخ الإسلام حبيبنا -يقصد: الهروي-، ولكن الحق أحب إلينا منه... وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "عمله خير مِن علمه". وصدق -رحمه الله-، فسيرته بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع، لا يشق له فيها غبار... وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم-، وقد أخطأ في هذا الباب لفظًا ومعنى" (انتهى).

وكم يصل التعصب عند البعض -لجهله بهذا المعنى- إلى حد العمى عن إدراك الحق، وكم أحدث مِن فتنٍ ووقيعة بيْن الذين ابتلوا به، حتى غلب عليهم التعامل بالظلم، وعدم العدل والإنصاف أو -على الأقل- حسن الظن، وكأنه جهل -أو تجاهل- أن كل إنسان يؤخذ مِن قوله ويرد، إلا المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، وأن أحدًا مِن الأئمة لم يدَّعِ لنفسه العصمة، ولم يلزموا أحدًا بما أوصله إليه اجتهادهم.

فالنصرة على سبيل العصبية مِن المفاهيم الخاطئة التي سادت في الجاهلية، والتي جاء الإسلام بتغييرها، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: (تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ) (رواه البخاري). أي: تمنعه مِن الظلم.  

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ذلك أن مِن الناس مَن يكون حبه وبغضه، وإرادته وكراهته، بحسب محبة نفسه وبغضها، لا بحسب محبة الله ورسوله، وبغض الله ورسوله، وهذا نوع مِن الهوى، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ) (القصص:50)... فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه، ومقدار حبه وبغضه، هل هو موافق لأمر الله ورسوله؟ بحيث يكون مأمورًا بذلك الحب والبغض، لا يكون متقدمًا فيه بيْن يدي الله ورسوله، فإنه قد قال: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (الحجرات:1)... ومَن أحب أو أبغض قبْل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع مِن التقدم بين يدي الله ورسوله".