التوازن في البلاغ (2)

  • 187

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد أشرنا إلى قضية التوازن في البلاغ إلى ركنٍ أول: وهو التوازن الداخلي للداعية، فيعلم حقيقته وموقعه ووظيفته، وإلا صار متسلطًا على الدين، محرفًا له تحت أوهام الضغوط، وتبريرات التنازلات.

ثانيًا: التوازن في الطرح: ونعني به التحين للحال، فلا يكثر مِن وعظٍ تمل به القلوب، ولا يقلل منه حتى لا يعظ الناس وهو يراهم يقتحمون المهالك، فعن شقيق قال: "كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ بَابِ عَبْدِ اللهِ نَنْتَظِرُهُ، فَمَرَّ بِنَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيُّ، فَقُلْنَا: أَعْلِمْهُ بِمَكَانِنَا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللهِ، فَقَالَ: إِنِّي أُخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ إِلَّا كَرَاهِيَةُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا" (متفق عليه).

فهذا مع تمام دعوتهم وشدة حرصهم على دعوة الخلق للحق، يوازن في نفس المادة المعروضة، وهذا التحين أثقل للقلب وأوعى له؛ تأمل دلالة قول الله -تعالى-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) (الفرقان:32).

قال ابن جُرَيج: "لنصحح به عزيمة قلبك ويقين نفسك، ونشجعك به".

وروي معناه عن ابن عباس في وجهٍ مِن وجهي تفسير الآية، فأحوال الناس تختلف بيْن النشاط والكسل، والإقبال والإدبار، ولكل حال ما يناسبه مِن العرض أو الإحجام، فخشية السآمة لمَن استقام، أما عند موارد الهلاك فلا يسمَّى التذكير سآمة، ولا الإلحاح ضجرًا.

قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ) (متفق عليه)، وعن ابن عباسٍ قال: سمِعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ، أَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَجَهَنَّمَ، إِيَّاكُمْ وَالْحُدُودَ، إِيَّاكُمْ وَجَهَنَّمَ، إِيَّاكُمْ وَالْحُدُودَ، إِيَّاكُمْ وَجَهَنَّمَ، إِيَّاكُمْ وَالْحُدُودَ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَإِذَا أَنَا مِتُّ تَرَكْتُكُمْ وَأَنَا فَرَطٌ لَكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَ أَفْلَحَ) (رواه البزار، وحسنه الألباني لغيره).

فهذا إلحاح وتكرار عند مورد الهلاك، فلا يجوز مع انتشار الفحش واستمراء الباطل أن يكف الدعاة عن النصح، وبيان سبل مواجهته، والتحذير مِن عواقبه، وأقله أثرًا: الإعذار لنفسه؛ فضلًا عن كونه لبنة تغيير وإصلاح، فكم مِن غارق ينتظر واعظه، وكم مِن جانٍ متعد ردعته آية ووعيد، حتى أصلحت شأنه بعد فساده، واستعملته بعد عصيانه، وهذا مثل لا يحصى عدده، في إسلام فئام مِن خيار الخلق، بسبب هذا العرض والبلاغ، كما في قصة إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وكما في توبة الفضيل بن عياض.

فلا تتكاسل عن البلاغ بدعوى الملل والسآمة، في وسط المنابر الإلحادية والمذاهب الهدامة؛ فهذا نوع هدم بطريق السلب، وتولٍ في يوم زحف، حري أن يُستبدل صاحبه، وأن يستعمل غيره، كما في الحديث: (إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ، وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، وَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ، وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَإِمَّا أَنْ تُبَلِّغَهُنَّ، وَإِمَّا أَنْ أُبَلِّغَهُنَّ. فَقَالَ: يَا أَخِي، إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي، فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، فَقُعِدَ عَلَى الشُّرَفِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ... ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، فالبلاغ وظيفة النبوة، ومَن ورث العلم بعدهم، فقم على وظيفتهم قبْل أن يُحال بينك وبيْن تركتهم.

والحمد لله رب العالمين.