عاشوراء... فوائد إيمانية ومعانٍ تربوية

  • 506

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

فقد قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (إبراهيم:5).

فتذكيرًا بأيام الله وتذكُّرًا لها فهذه بعض الفوائد الإيمانية والمعاني التربوية فيما يتعلق بيوم عاشوراء.

أولًا: نعمة النصر وشكر الله عليها:

عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟)، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ)، فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. (متفق عليه).

فهو يوم مبارك، نصر الله فيه الحق على الباطل، وكان موسى -عليه السلام- يصومه شكرًا لله على هذه النعمة العظيمة؛ فقد أنجاه الله وجنده، وهزم جند الشيطان، وأظهر فيه أولياءه وكبت فيه أعداءه.

والشكر لله تعالى كما يقول ابن القيم -رحمه الله-: "هو القيام له بطاعته، والتقرب إليه بأنواع محابِّه ظاهرًا وباطنًا" (الفوائد، ص 174).

وبيَّن القرطبي -رحمه الله- أنه: "اعتراف بالنعمة وقيام بالخدمة" (المفهم، 7/ 139).

وذكر ابن القيم أن مِن عنوان سعادة العبد وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه: أنه إذا أنعم الله عليه شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإن هذه الأمور الثلاثة لا ينفك عبد عنها أبدًا، فالعبد دائم التقلب بيْن هذه الأطباق الثلاث" (الوابل الصيب، ص 11).

ثانيًا: الولاء والبراء:

في الحديث: (إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: الْمُوَالَاةُ فِي اللهِ وَالْمُعَادَاةُ فِي اللهِ، وَالْحُبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني)، وقد كثر بيان قضية الولاء والبراء في الكتاب والسُّنة، "ونعني بالولاء: الموالاة الواجبة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين، ولازمها حرمة الموالاة للكافرين. ونعني بالبراء: التبرؤ مِن الشرك وأهله وعداوتهم وبغضهم، ولازمها حرمة البراءة مِن المسلمين والمؤمنين أو عداوتهم أو بغضهم" (فضل الغني الحميد، ص 107).

وقد اتضحت هذه القضية بجلاءٍ في مسألة صيام يوم عاشوراء، ففي الحديث السابق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لليهود: (فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ)، فـمراده -صلى الله عليه وسلم-: "نحن أثبت وأقرب لمتابعة موسى -صلى الله عليه وسلم منكم-، فإنا موافقون له في أصول الدين ومصدقون لكتابه، وأنتم مخالفون لهما في التغيير والتحريف" (عون المعبود 7/ 109).

هذا مِن جهة الولاء للمؤمنين، وأما البراء مِن المشركين، فقد صام النبي -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء، وأمر الناس بصيامه؛ إلا أنه أمر أن يخالفوا اليهود، فعن أبي غطفان بن طريف المري قال: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ -إِنْ شَاءَ اللهُ- صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ) قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. (رواه مسلم).

وتقرر بذلك وغيره أن ما كان مشروعًا في الشريعتين أو ما كان مشروعًا لنا وهم يفعلونه -كصوم عاشوراء أو كأصل الصلاة والصيام- فإنه تقع المخالفة في صفة ذلك العمل؛ فسُنَّ لنا صوم تاسوعاء وعاشوراء (اقتضاء الصراط المستقيم، ص 157).

وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَصُومُوهُ أَنْتُمْ) (متفق عليه). وفي رواية لمسلم: كَانَ أَهْلُ خَيْبَرَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حُلِيَّهُمْ وَشَارَتَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَصُومُوهُ أَنْتُمْ).  

وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيدًا، وعلى استحباب صيام أعياد المشركين؛ فإن الصوم ينافي اتخاذه عيدًا فيوافقون في صيامه مع صيام يومٍ آخر معه -كما تقدَّم-، فإن في ذلك مخالفة لهم في كيفية صيامه أيضًا، فلا تبقى فيه موافقة لهم في شيء بالكلية (لطائف المعارف، ص 111، 112).

هذا وقد "استُشكل بأن التعليل بنجاة موسى وغرق فرعون يختص بموسى واليهود، وأجيب باحتمال أن يكون عيسى كان يصومه وهو مما لم ينسخ مِن شريعة موسى؛ لأن كثيرًا منها ما نسخ بشريعة عيسى؛ لقوله -تعالى-: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (آل عمران:50)، ويقال: إن أكثر الأحكام الفرعية إنما تتلقاها النصارى مِن التوراة" (فتح الباري 4/ 291)، فترسَّخ بهذا مدى الحرص على مخالفة اليهود والنصارى.

ثالثًا: وسطية أهل السُّنة:

اعلم أن أهل السُّنة والجماعة "هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم" (الواسطية لشيخ الإسلام، ص 88- 93).

وتتضح هذه الوسطية في يوم عاشوراء، فبعد قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما-، وكان ذلك في يوم عاشوراء، ظهر موقفان متناقضان، فطائفة اتخذت يوم عاشوراء مأتمَ حزنٍ، وأخرى جعلته موسمَ سرورٍ، وكلا طرفي الأمور ذميمُ.

قال شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله-: "وصار الشيطان بسبب قتل الحسين -رضي الله عنه- يحدث للناس بدعتين: بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء مِن اللطم والصراخ والبكاء، والعطش وإنشاد المراثي، وما يفضي إليه ذلك مِن سب السلف ولعنتهم، وإدخال مَن لا ذنب له مع ذوي الذنوب حتى يسب السابقون الأولون، وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب، وكان قصد مَن سنَّ ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بيْن الأمة، فإن هذا ليس واجبًا ولا مستحبًّا باتفاق المسلمين، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة مِن أعظم ما حرَّمه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

وكذلك بدعة السرور والفرح، وكانت الكوفة بها قوم مِن الشيعة المنتصرين للحسين، وكان رأسهم المختار بن أبي عبيد الكذاب، وقوم مِن الناصبة المبغضين لعلي -رضي الله عنه- وأولاده، ومنهم الحجاج بن يوسف الثقفي... فأحدث أولئك الحزن، وأحدث هؤلاء السرور" (منهاج السُّنة، 4/ 554- 555).

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "أحاديث الاكتحال يوم عاشوراء، والتزين والتوسعة والصلاة فيه، وغير ذلك مِن فضائل لا يصح منها شيء، ولا حديث واحد، ولا يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه شيء غير أحاديث صيامه، وما عداها فباطل".

ثم قال: "وأما حديث الاكتحال والادهان والتطيب، فمِن وضع الكذابين، وقابلهم آخرون؛ فاتخذوه يوم تألم وحزن، والطائفتان مبتدعتان خارجتان عن السُّنة، وأهل السُّنة يفعلون فيه ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن الصوم، ويجتنبون ما أمر به الشيطان مِن البدع" (المنار المنيف، ص 111، 113).

وذلك أن "الشيطان قصده أن يحرِّف الخلق عن الصراط المستقيم، ولا يبالي إلى أي الشقين صاروا، فينبغي أن يجتنب هذه المحدثات" (اقتضاء الصراط المستقيم، ص 265).

رابعًا: فرصة لمغفرة الذنوب:

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ" (متفق عليه)، وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن صيام عاشوراء: (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ) (رواه مسلم).

"وكان طائفة مِن السلف يصومون عاشوراء في السفر، منهم: ابن عباس، وأبو إسحاق السبيعي، والزهري، وقال: رمضان له عدة مِن أيام أخر، وعاشوراء يفوت، ونص أحمد على أنه يصام عاشوراء في السفر... وروى عبد الرزاق بإسناده عن طاوس أنه كان يصوم عاشوراء في الحضر، ولا يصومه في السفر" (لطائف المعارف، ص 110).

لكن تنبَّه، ولا تكن مِن المغترين الذين يتكل "بعضهم على صوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة حتى يقول بعضهم: يوم عاشوراء يكفر ذنوب العام كلها، ويبقى صوم يوم عرفة زيادة في الأجر! ولم يدرِ هذا المغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل مِن صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفر ما بينها إذا اجتنبت الكبائر" (الداء والدواء، ص 42-44).

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك.