تأملات في حجة الوداع (13)

  • 231

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ... ) (رواه مسلم).

ومِن أخطر معاني الجاهلية: ما ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- مِن جاهلية الحُكْم فقال: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50)؛ فكل حُكْم لا يستند إلى شرع الله وحكمه، فهو مِن حُكْم الجاهلية.

وهو ينقسم إلى نوعين: حُكم جاهلية يُخْرِج صاحبَه من المِلَّة، وحُكم جاهلية لا يخرج صاحبه مِن الملة؛ بل هو كفر أصغر.

فأما الأول: فأنواع، بَيَّنَها الشيخ محمد بن إبراهيم -رَحِمَهُ اللهُ- في فتواه الشهيرة بذلك، وملخصها أن الحكم بغير ما أنزل الله الذي هو كفر اعتقاد، أنواع:

أحدها: أن يَجحد الحاكمُ بغير ما أنزل الله أحَقِّيَّة حُكْمِ الله ورسوله، وهو معنى ما روي عن ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- واختاره ابن جرير، أن ذلك هو: جحود ما أنزل مِن الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بيْن أهل العلم؛ فإن الأصول المتقررة المُتَّفَق عليها بينهم أن مَن جحد أصلًا مِن أصول الدين أو فرعًا مجمعًا عليه أو أنكر حرفًا مما جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قطعيًّا، فإنه كافرٌ الكفر الناقل عن الملة.

الثاني: أن لا يَجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله حقًا، لكن اعتقد أن حُكْمَ غير الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحسن مِن حُكْمِه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس مِن الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقًا أي: في كل الأزمنة والأمكنة، أو بالنسبة إلى ما استجد مِن الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال، وهذا أيضًا لا ريب أنه كفر -(قلتُ: وهذا مثل مَن يقول بأننا ينبغي أن نعطِّل آيات "لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ" وغيرها مِن آيات المواريث؛ لأنها لم تعد صالحة لهذا الزمان!)-؛ وذلك لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان وصرف حثالة الأفكار على حكم الحكيم الحميد!

وحكم الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال وتجدد الحوادث، وإنه ما مِن قضية كائنة ما كانت إلا وكان حكمها في كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَصًّا أو ظاهرًا أو استنباطًا أو غير ذلك، عَلِمَ ذلك مَن عَلِمَه وجَهِلَه مَن جَهِلَه، وليس معنى ما ذكره العلماء مِن تغير الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه مَن قَلَّ نصيبُهم أو عُدِم مِن معرفة مدارك الأحكام وعِلَلِها؛ حيث ظَنُّوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوَبِيَّة؛ ولهذا تجدهم يحامون عليها ويجعلون النصوص تابعةً لها مُنْقَادَةً إليها مهما أمكنهم فيحرفون لذلك الكَلِم عن مَوَاضِعه؛ وحينئذٍ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه ما كانت مُسْتَصحَبَة فيه الأصول الشرعية والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مُرَادٌ لله -تعالى- ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومِن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزلٍ، وأنهم لا يكونون إلا على ما يلائم مُرَادَاتِهم كائنةً ما كانت، والواقع أصدق شاهد.

(قلتُ: مِن هنا يتبيَّن لنا أهمية ما تضمنه الدستور المصري مِن إلزام المشرع باللجوء إلى أحكام الشريعة الإسلامية وعدم اللجوء إلى غيرها، وأنه إذا لم يجد في مصادر الشريعة الإسلامية بُغْيَتَه، فإن في مصادر الاجتهاد ما يمَكِّنه مِن استنباط الأحكام اللازمة بناءً على الشريعة الاسلامية، وهذا التأصيل غاية في الأهمية وإن لم يكن قد رأى النور في التطبيق العملي بَعْد).

الثالث: أن لا يَعتقد كونه أحسن مِن حكم الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لكن اعتقد أنه مثله؛ فهذا كالنوعين اللذَين قَبْلَه في كونه كافرًا الكفر الناقل عن المِلَّة؛ لما يقتضيه ذلك مِن تسوية المخلوق بالخالق، والمُنَاقَضَة والمُعَانَدَة؛ لقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11)، ونحوها مِن الآيات الكريمة الدالة على تَفَرُّد الرَبِّ بالكمال، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال، والحُكْمِ بين الناس فيما يتنازعون فيه.

الرابع: أن لا يَعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلًا لحكم الله ورسوله -فضلًا عن أن يعتقد كونه أحسن منه-، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فهذا كالذي قبله، يَصْدُق عليه ما يصدق عليه؛ لاعتقاده جواز ما عُلم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه.

ثم ذَكَر النوع الخامس وقال: "وهو أعظمها وأشملها، وأظهرها مُعَانَدَة للشرع ومُكَابَرَة لأحكامه، ومُشَاقَّة لله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومُضَاهَاة بالمحاكم الشرعية؛ إعدادًا وإمدادًا، وإرصادًا وتأصيلًا -(قلتُ: وهذا النوع مَدَاره حول إلزام الناس في التشريع العام بما يخالِف نصوص الكتاب والسُنَّة كما يُحَاوِله البعض في زماننا مِن إلغاء مرجعية النصوص مِن القرآن في أمر المواريث، وفي أمر زواج المسلمة مِن الكافر، كما قد فعلوه مِن قَبل في أمر الحدود، والزنا بالتراضي وإلغاء تجريمه إذا كان عن تراضٍ! وغير ذلك مِن القوانين التي وُضِعَت في عصور الاحتلال، ووَرِثَها أقوامٌ بعضُهم دافَع عنها كما يُدَافِع عن عقيدته ودِينه، وأكثرُ المسلمين -بحمد الله- يكرهون ذلك ويَرُدُّونَه وإن لم يتمكن الناس مِن إزالته؛ نسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يُعَجِّل بعَودة المسلمين إلى التزام أحكام الشريعة كلها)-.

السادس: ما يَحكُم به كثيرٌ مِن رؤساء العشائر والقبائل مِن البوادي ونحوهم مِن حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم، يتوارثون ذلك منهم ويحكمون به، ويَحُضُّون على التحاكم إليه عند النزاع؛ إبقاءً على أحكام الجاهلية، وإعراضًا ورغبةً عن حُكْمِ الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ! -(قلتُ: وهذا النوع مِثل الذي قَبْله، إلَّا أنه ليس مُسَجَّلًا في موادٍ قانونيةٍ، ولكنه محفوظ عند المُحَكَّمين في الجلسات العُرْفِيَّة، مع عِلمهم بمُنَاقَضتها لشرع الله، وإلزامهم بذلك؛ إيثارًا لِشِرْعَة آبائهم وأجدادهم على شِرْعَة الله -عَزَّ وَجَلَّ-)-.

- قال -رحمه الله-: "وأما القسم الثاني مِن قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يُخْرِج من المِلَّة، وذلك أن تَحْمِله شهوتُه وهَوَاه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حُكْمَ الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومُجَانَبَة الهدى؛ وهذا وإن لم يُخرجه كفرُه مِن المِلَّة فإنه معصية عُظْمَى، أكبر مِن الكبائر: كالزنى، وشُرب الخمر، والسرقة، واليمين الغموس، وغيرها؛ فإن معصيةً سَمَّاها الله كُفْرًا في كتابه أعظم مِن معصيةٍ لَم يُسَمِّها كُفْرًا" (انتهى).

وللشيخ أحمد شاكر -رَحِمَهُ اللهُ- مُحَدِّث الديار المصرية مِثْلَ ذلك أو قريبًا منه، أعني في النوع الخامس والسادس في الكفر الأكبر، وهو أن ذلك فيمَن أَلْزَم الناس في التشريع العام بغير شرع الله -عَزَّ وَجَلَّ-.

ولابد أن نُبَيِّن هنا أن التكفير في النوع المُخْرِج مِن المِلَّة هو في النوع أي الحكم العام؛ أما تكفير المُعَيَّن والفتوى بِرِدَّتِه فلابد فيه مِن استيفاء الشروط -شروط التكفير- وانتفاء موانعه، وأهمها: الجهل، والتأويل، والإكراه، والخطأ، والنسيان، وإهدار هذه الضوابط سبب خطير مِن أسباب الجرأة على التكفير وسفك الدماء، وتخريب البلاد والمجتمعات.

ولذا فهذه القضية -أعني قضية العذر بالجهل والتأويل والخطأ- ليستْ كما يظنها البعض مسألة فرعية أو تابعة لأصول الفقه؛ بل هي مسألة عَقَدِيَّة مَبْنِيَّة على أصلٍ عظيمٍ، وهو فرق بيْن أهل السُنَّة والمُعتَزِلة حول اشتراط قيام الحُجَّة الرِسَالِيَّة، وعدم الاكتفاء بالحُجَّة العَقْلِيَّة والتحسين والتقبيح العَقْلِيَّيْن الذي تقوله المعتزلة، وللأسف تسربت هذه البدعة إلى بعض المُتَكَلِّمين في هذا الباب في زماننا، وانتصروا لرأي المعتزلة مع أنهم محسوبون على دعوة أهل السُنَّة.

ولابُدَّ أن ننتبه إلى أن قول بعض المشايخ المُعاصِرين بعدم العذر بالجهل أو تَرَدُّد بعضِهم لا يُغَيِّر مِن حُكم المسألة شيئًا؛ فإنها مسألة مُجْمَع عليها عند أهل السُنَّة كما نقله ابن حزم في "الفِصَل"، وأَيَّدَه شيخ الإسلام ابن تيمية، بل كَرَّرَه مَرَّاتٍ عديدة يصعب حصرها في كُتُبِه، وذلك للأدلة الواضحة البَيِّنَة في هذه المسألة، والنَّافُون للعذر بالجهل والمُصَرِّحون بعدم لزوم الحُجَّة الرسالية في مسائل التوحيد، وأنه يكفي في ذلك ما ادَّعوه مِن الفطرة أو الميثاق الأول دون الحجة الرسالية هم أهل بدعة يجب التحذير منهم.

أما دَورنا في مقاومة "حكم الجاهلية" في مجتمعاتنا، فهو ما نتكلم عنه في المقال القادم -بإذن الله-.