لقد رضيَ اللهُ عنكَ وسَخِطَ على صَاحِبيِك

  • 234

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ... ) (متفق عليه).

فاقتضت حكمة الله -جلَّ وعلا- أن تكون حياة الإنسان في هذه الدار مزيجًا مِن السعادة والشقاء، والفرح والترح، والغنى والفقر، والصحة والسقم، وهي حياة سريعة التقلب، جزء مِن الابتلاء والامتحان الذي مِن أجله خُلق الإنسان. فعلى المسلم أن يعلِّق قلبه بالله -تعالى- فلا يخاف إلا منه، ولا يرجو إلا إياه. 

ربنا -جلَّ وعلا- يبتلي عباده بالضراء كما يبتليهم بالسراء، وله على العباد عبودية في الحالتين، فيما يحبون وفيما يكرهون، فأما المؤمن فلا يجزع عند المصيبة، ولا ييأس عند الضائقة، ولا يبطر عند النعمة، بل يعترف لله بالفضل والإنعام، ويعمل جاهدًا على شكرها وأداء حقها، وأما الفاجر والكافر فيَفْرَق عند البلاء، ويضيق مِن الضراء، فإذا أعطاه الله ما تمناه، وأسبغ عليه نعمه كفرها وجحدها، ولم يعترف لله بها، فضلًا عن أن يعرف حقها، ويؤدي شكرها.

مِن التوحيد والأدب: أن تنسب الشفاء والغنى إلى الله وحده (قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي)، وهنا جاء موعد الامتحان الذي يفشل فيه الكثير، وهو "امتحان السراء والنعمة".

إن هذه القصة تبيِّن بجلاء أن الابتلاء سنة جارية وقدر نافذ، قال -سبحانه-: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء:35)؛ ليتميز المؤمن مِن غيره، والصادق مِن الكاذب، وتتميَّز معادن الناس، فينقسمون إلى مؤمنين صابرين، وإلى مدَّعين أو منافقين، وعلى قدر دين العبد وإيمانه يكون البلاء، وفي المسند عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: (الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

كما تشير القصة إلى معنى عظيم، وهو: أن الابتلاء بالسراء والرخاء قد يكون أصعب مِن الابتلاء بالشدة والضراء، وأن اليقظة للنفس في الابتلاء بالخير، أولى مِن اليقظة لها في الابتلاء بالشر.

كثير هم أولئك الذين يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف، ولكن قليل هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة، كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل، ولكن قليل هم الذين يصبرون على الغنى والثراء!

وهذا عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- يقول: "ابْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ" (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

ولعل السر في ذلك أن الشدَّة تستنفر قوى الإنسان وطاقاته، وتثير فيه الشعور بالتحدِّي والمواجهة، وتشعره بالفقر إلى الله -تعالى-، وضرورة التضرُّع واللجوء إليه، فيهبه الله الصبر، أما السراء؛ فإن الأعصاب تسترخي معها، وتفقد القدرة على اليقظة والمقاومة، فهي توافق هوى النفس، وتخاطب الغرائز الفطريَّة فيها، مِن حب الشهوات والإخلاد إلى الأرض فيسترسل الإنسان معها شيئًا فشيئًا، دون أن يشعر أو يدرك أنه واقع في فتنة، ومِن أجل ذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء، كما فعل الأبرص والأقرع، وذلك شأن البشر، إلا مِن عصم الله، فكانوا ممَن قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ) (رواه مسلم)، فاليقظة للنفس في حال السراء أولى مِن اليقظة لها في حال الضراء، والصلة بالله في الحالين هي وحدها الضمان.

كما تؤكِّد القصة على أن خير ما تُحفظ به النعم شكر الله -جلَّ وعلا- الذي وهبها وتفضل بها، وشكره مبنيٌ على ثلاثة أركان لا يتحقق بدونها:

أولها: الاعتراف بها باطنًا.  

وثانيها: التحدث بها ظاهرًا.

وثالثها: تصريفها في مراضيه ومحابه؛ فبهذه الأمور الثلاثة تحفظ النعم مِن الزوال، وتصان مِن الضياع.

مَن شَكَر النعمة، وأعطى الفقراء زاده الله غنى، وبارك له، ومَن بخل فقد عرض نفسه لزوال النعمة وسخط الرب القائل: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم:7).

ومِن فوئد القصة: عبادة المراقبة لله -تعالى-.

والحمد لله رب العالمين.